حبنا اللغوي

TT

لم تثر أي مقالة نشرتها في حياتي من التعليقات ما أثارته مقالتي عن موت اللغة العربية. انعكس هذا الاهتمام بإعادة نشرها في صحف عربية أخرى. قرأت ما تفضل به القراء الكرام، وكله يؤكد ما هو معروف مسبقا، ألا وهو أننا أمة يصعب عليها التطور وتعيش في الروح العاطفية لا في الروح العملية، وتنظر للغة لا كأداة تعبير ووسيلة عملية وإنما كزخرفة وأداة استمتاع.، وتخلط بين قدسية كلام الله وطوعية كلام الناس.

هذا موضوع خطير جدا، لأنه من أسباب تأخرنا؛ ففي أهم مرحلة في تعلم الإنسان ونضوجه نضيع وقت طلابنا في دروس النحو والإملاء عدة ساعات أسبوعيا لعدة سنين، ثم يتخرج الطالب فيجد نفسه عاجزا عن استعمال كل ما تعلمه من ذلك. أنا يا سادتي ابن عائلة معروفة في الأدب والقضاء، وكان والدي رحمه الله معلما للغة العربية، وحرص على تعليمي بنفسه يوميا. كان من واجباتي اليومية أن أقرأ له المقالة الافتتاحية في الجرائد ليصحح قراءتي. تخرجت بتفوق من المدرسة ودخلت كلية الحقوق وتخرجت محاميا وقضيت كل حياتي في الكتابة والصحافة. ومع ذلك فزملائي في هذه الصحيفة لا ينفكون من تصحيح أخطائي اللغوية والإملائية. لا أستطيع حتى الآن إلقاء محاضرة بالفصحى ما لم أكتبها مقدما، وأحرك حروفها بالضمة والفتحة.. ثم أخطئ في قراءتها. لغتي الإنجليزية هي ما تعلمته في المدارس. ومع ذلك فأنا ألقي محاضراتي باللغة الإنجليزية ارتجالا ودون أي نص. ياما وياما حضرت محاضرات لأساتذة عرب يبدأون بالاعتذار عن عدم قدرتهم تقديم مادتهم باللغة العربية ثم ينطلقون بإلقائها بالإنجليزية.

الموضوع ليس مجرد موت اللغة العربية، وإنما أصبح الموضوع موت الأمة العربية. ما لم نهب بشجاعة وإقدام لتصحيح ما في حياتنا من خلل رغم كل ما يسببه لنا من ألم وتعب، فليس لنا أي مستقبل على هذه الكرة الأرضية. حتى الكومبيوتر أصبح يضيق بنا ويقرف منا. فكثيرا ما يجد نفسه عاجزا عن التعامل مع تعقيداتنا اللغوية والحروفية. لا عجب أن يلاحظ الأخ يحيى شريف أن كل المراسلات والحسابات والمعاملات التجارية والأعمالية في الخليج تجري الآن باللغة الإنجليزية.

ينتقد سفيان الخزرجي وآخرون من القراء ما كتبته؛ تصورا منهم أنني أدعو لاستعمال العامية. كلا يا سادتي. فذلك سيقطع خبزتي. أنا أعيش على اللغة الفصحى. إذا كتبت بالعامية فستستغني عن خدماتي هذه الجريدة، فلن يفهمني غير العراقيين. حرصي على الفصحى والوحدة الفكرية واللغوية للشعوب العربية هو الذي يدعوني لإصلاح اللغة العربية وتبسيطها قبل أن يأتي آخرون ويقضوا عليها باستبدال العامية بها. «جاء المعلمين» ليست عامية وإنما غير نحوية.

يتساءل أحمد الجنابي فيقول: هل يقبل الإنجليز تغيير استعمالاتهم اللغوية؟ نعم يا سيدي. مثلا أخذوا يحذفون المؤنث تماشيا مع فكرة المساواة الجنسية. أخذوا مثلا يطلقون «شاعر poet » على الرجل والمرأة. أصبحت في الواقع أواجه صعوبات في فهم بعض استعمالاتهم الشبابية الجديدة. لا تنسوا؛ الإنجليز اكتشفوا نظرية التطور ولم يرفضوها أو يكفروها.