العلاقات العربية ـ التركية.. مقومات الازدهار وتحديات الانحسار

TT

الرغبة التركية في التحول شرقا ليست جديدة، ولم تبدأ منذ الحرب الإسرائيلية على غزة، أو مع حادثة أسطول الحرية، كما أنها ليست هبة عاطفية، بل تنطلق من مصالح تركية عليا تراكمت منذ منتصف سبعينات القرن الميلادي الماضي، أي بعد دخول القوات التركية إلى جزء من أراضي قبرص عام 1974، ثم استضافة تركيا لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي في عام 1976.

والتقارب العربي - التركي يعتمد على مصالح اقتصادية للطرفين في المقام الأول، إضافة إلى أنه يتفق مع متطلبات المنطقة في الوقت الحاضر لإحداث توازن إيجابي ضد جماعات الغلو بعيدا عن الهيمنة السياسية أو الاستقطاب وسياسة المحاور والأحلاف العسكرية أو الأيديولوجية.

لكن هناك ثمة أسئلة مطروحة الآن مؤداها: لماذا زادت وتيرة التحول التركي الآن إلى الشرق، وهل يعني ذلك أنها تخلت عن الغرب؟ وهل هذا التحول سيكون له صفة الديمومة ويحظى بقبول كل الأطراف التركية، أم أنه مؤقت تحكمه مصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم؟ وهل هذا التقارب يتعارض مع المصالح الأميركية - الإسرائيلية، أم لا؟ وهل العرب مهيئون لهذا التقارب في الوقت الراهن؟

بداية.. تركيا ليست غريبة أو بعيدة عن المنطقة العربية، وظلت تركيا العثمانية ترتبط بعلاقات قوية مع العرب طيلة أربعة قرون إلى أن سقطت الخلافة وقامت جمهورية أتاتورك عام 1923، التي سلخت تركيا عن محيطها الإسلامي والعربي وتوجهت بها غربا، حيث تخلت عن تدريس اللغة العربية وارتدت القبعة بدلا من الطربوش، وأحسن الغرب استقبالها باعتبارها - آنذاك - حائط صد في مواجهة الاتحاد السوفياتي من جهة، والعالم الإسلامي من جهة أخرى. وعليه انضمت تركيا لحلف شمال الأطلسي عام 1952، وكانت أول دولة إسلامية تعترف بقيام إسرائيل عام 1949، ثم أبرمت اتفاقية تعاون عسكري وصلت إلى حد التحالف مع الدولة العبرية في عام 1996، لكن بعد قرابة 80 عاما تيقنت تركيا أنها لن تحصل من الغرب أكثر مما حصلت عليه، فالباب أمامها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أصبح مغلقا، كما أن دورها العسكري في مواجهة ما كان يسمى بحلف وارسو تضاءل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وجاء ذلك في الوقت الذي تنامت فيه قوة أكراد العراق مما يهدد بقيام الدولة الكردية في المثلث الكردي في (العراق، إيران، وتركيا).. كما أن هناك حاجة اقتصادية لدى أنقرة للتعاون مع العرب لأسباب كثيرة منها أن تركيا تستورد 95 % من احتياجاتها النفطية، وهو ما تفوق قيمته 20 مليار دولار سنويا، ولديها رغبة في زيادة قيمة المبادلات التجارية مع الدول العربية إلى 100 مليار دولار سنويا، بعد أن بلغت قيمتها 40 مليار دولار عام 2008، وقال وزير المالية التركي محمد شمشك مؤخرا «إن فترة انخفاض مستوى العلاقات العربية التركية التي سادت خلال المائة عام الماضية قد انتهت، وبدأنا مرحلة جديدة تشمل الانفتاح المتبادل وتنمية البيئة الاستثمارية والانخراط في مشاريع مشتركة».

والرغبة في زيادة التعاون الاقتصادي ليست رغبة تركية فقط، بل تقابلها رغبة عربية مماثلة، حيث إن الاقتصاد التركي تعافى بشكل جيد مؤخرا، ويأتي في المرتبة الـ15 عالميا، والأكبر إسلاميا، وعلى الصعيد الزراعي لدى تركيا مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمياه العذبة، مما يجعلها سلة غذاء للمنطقة العربية، خصوصا عند إنشاء مشروع جنوب شرقي الأناضول الذي يستهدف زراعة ملياري هكتار باستثمارات تصل إلى 12 مليار دولار، في إطار المشروع الذي أطلقت عليه أنقرة «مركز الإنتاج الزراعي وسلة الغذاء في الشرق الأوسط»، وتحتل تركيا المركز العاشر بين الدول الجاذبة للسياحة في العالم، وتتوقع أن يزورها 30 مليون سائح بنهاية العام الحالي، بما يحقق دخلا أكثر من 30 مليار دولار، وتقترب قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا من 25 مليار دولار، بعد أن كانت قيمتها 1.1 مليار عام 2001، كما بلغ حجم تجارتها الخارجية قرابة 290 مليار دولار، وتخطط لزيادته إلى تريليون دولار عام 2023، ونظرا للمخزون المائي الضخم لدى تركيا فقد عرضت مرات عدة منذ عهد الرئيس الأسبق تورغوت أوزال تزويد دول الخليج بالماء العذب.

الدلائل تشير إلى أن هناك تلاقيا بين الدول العربية وتركيا في التعاون الاقتصادي، ورغبة في التعاون السياسي لكون تركيا ليست دولة توسعية، وليست لديها أجندة مذهبية أو عرقية، فهي دولة إسلامية علمانية غير متعصبة مذهبيا، إضافة إلى أن عضويتها في الناتو تجعلها منضبطة عسكريا، فهي لا تقبل أو تستطيع جر الناتو إلى مغامرة عسكرية مع أطراف إقليمية، وتنحصر مشكلاتها مع حزب العمال الكردستاني، بينما تشهد علاقتها مع أكراد العراق تطورا إيجابيا، ناهيك عن تحسن علاقاتها مع سورية. لكن رغم هذه المحددات الإيجابية، بل والمغرية.. هل ستنمو العلاقات العربية - التركية بقدر طموح الجانبين، أم أن هناك معوقات ستقف في طريقها؟.. المعطيات الحالية تقول إن مقومات النجاح موجودة، لكن استمرارها مرهون بعدة محددات من داخل تركيا، ومن موقف أميركا وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي.. ففي الداخل التركي ثبات العلاقات مع الجوار العربي يتوقف على عدة عوامل تتمثل في علاقة المؤسسة العسكرية بالسلطة السياسية ومدى رضاها عن هذا التعاون. فهذه المؤسسة أنهت حكم حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان عندما أراد تجميد اتفاقية التعاون العسكري مع إسرائيل وأجبرته على تقديم استقالته في 18 يونيو (حزيران) عام 1998، فيما عرف آنذاك بالانقلاب الأبيض، كما أن ما حدث في مطلع ستينيات القرن الميلادي الماضي، عندما أطاحت المؤسسة العسكرية بالرئيس التركي آنذاك عدنان مندريس ثم تم إعدامه لاحقا بسبب رغبته في العودة إلى محيط تركيا الإسلامي والعربي، لا يزال عالقا في الأذهان، إضافة إلى ذلك فإن التحالف العسكري التركي - الإسرائيلي قد يثير الشك لدى الجانب العربي في حال تغير النخبة السياسية الحاكمة في تركيا، بل إن التقارب العربي التركي قد ينهار برمته في حال صعود العسكر إلى السلطة في أنقرة أو وصول أحزاب قومية أخرى لها توجهاتها السياسية المغايرة، وعليه يجب أن يكون التقارب مع الدول العربية نابعا من رغبة حقيقية من جميع أطياف النخب السياسية التركية ووفقا لاستراتيجية بعيدة المدى لجميع الأحزاب، وليس مجرد رغبة مؤقتة أو رد فعل طارئ لمتغيرات إقليمية ودولية ألقت بظلالها على تركيا في الوقت الراهن..

أما التحديات الخارجية فتتمثل في مواقف إسرائيل، وأميركا.. فإسرائيل تخشى أن يكون التقارب العربي - التركي على حسابها، لذلك فهي قد تلجأ إلى تغذية الخلافات بين المؤسسة العسكرية التركية والسلطة السياسية، أو قد تتورط في دعم انقلاب ضد حزب العدالة والتنمية، أو تدعم الأكراد الانفصاليين لزعزعة نظام الحكم في أنقرة.. أما واشنطن فقد ترى في هذا التقارب أنه سيكون على حساب نفوذها ومصالحها خاصة في تلك الفترة التي تشهد تراجعا للدور الأميركي في الشرق الأوسط بصفة خاصة، كما أنها ستخشى من ظهور قوة جديدة مناوئة لسياسة القطب الواحد بعد انسحابها من العراق، وتعثرها في أفغانستان، وتخبطها أمام البرنامج النووي الإيراني، ومن ثم سوف تستخدم سياسة العصا والجزرة تجاه أنقرة.. وتتمثل الجزرة في الضغط على أوروبا لقبول تركيا عضوا في الاتحاد الأوروبي، أما العصا فتتمثل في إشهار ورقة مذابح الأرمن التي تعود قصتها المزعومة إلى عام 1915، إضافة إلى الورقة الكردية وعلاقاتها بحقوق الإنسان، وتحريك إسرائيل ضد تركيا من بوابة الورقة الكردية أيضا.

لكن ما دام التعاون العربي - التركي يقوم على أسس اقتصادية، وليس عسكرية، فإنه لن يكون موجها ضد أحد، ولن يضير أي قوى إقليمية أو دولية، كما أن العلاقات الاقتصادية تكون أكثر ثباتا مهما تغير السياسات أو منفذوها، لأنها مصالح تخص الشعوب وليس النخب السياسية، ومن ثم سيكون هذا التعاون نموذجا جيدا إذا أحُسن التخطيط له على أسس واقعية متكافئة وليست عاطفية، أو لصالح طرف على حساب الآخر.

لكن بالقراءة المتأنية نجد من دون شك أن هناك عدة مصالح مشتركة تدعم التقارب العربي - التركي، وروابط كثيرة اقتصادية، حضارية، وتاريخية تجمع العالم العربي مع تركيا.. وعلى الجانب الآخر توجد مصالح وعوامل متعددة تباعد بين تركيا والعالم العربي. إن ما نشاهده اليوم من تقارب بين الجانبين قد لا يمثل حالة قابلة للديمومة، بل قد تكون حالة مؤقتة سرعان ما تفقد زخمها ووهجها، فالضغوط الداخلية والخارجية على الحكومة التركية لإنهاء شهر العسل مع العالم العربي لا يمكن الاستهانة بها، وتضارب المصالح والرؤى الاستراتيجية التي أحاطت بالعلاقات بين الطرفين لسنوات طويلة قد يطفو على السطح مجددا.

والمطلوب من الأطراف الرئيسية في العلاقات العربية - التركية أو التحالف العربي - التركي إن جاز التعبير، ونقصد بهذه الأطراف تحديدا المملكة العربية السعودية، ومصر، وسورية، وتركيا، أن تنظر إلى ما ستكون عليه هذه العلاقة في المدى البعيد لضمان عدم ظهور تباينات تهدد هذا التحالف أو التقارب، وحتى لا تتقاطع المصالح أو تحاول تركيا الاستئثار بالنفوذ في قضايا ومصالح من صميم الشأن العربي، في مقدمتها القضية الفلسطينية، ثم العراق، وإيران، وأفغانستان، وغير ذلك من أوجه العلاقة سواء كانت سياسية أو اقتصادية.. لذلك لا بد من التروي في وضع الأسس والآليات التي تضمن نجاح هذا التقارب بين الطرفين حتى لا يحمل بذور انهياره على المديين المتوسط والبعيد.

أخيرا.. من المهم والضروري أن يكون هناك تحول جذري في الحسابات الاستراتيجية التركية نحو اعتبار التحالف العربي التركي يخدم المصالحة القومية العليا للدولة التركية على المدى البعيد. وإذا اعتمدت أنقرة هذه الاستراتيجية فسيكون ذلك هو الضمان الوحيد لاستمرار وتطوير هذا التحالف بغض النظر عن تغير القيادات السياسية أو تغير الأحزاب الحاكمة في أنقرة.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث