بوزكورت والدب الروسي.. لحظة وئام

TT

لقاء الرئيس الروسي ديميتري ميدفيديف ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الأخير على ضفاف البوسفور البقعة الاستراتيجية التي طالما حلم الروس بالسيطرة عليها جاء مميزا من ناحية الأجواء التي رافقته وحجم الاتفاقيات والعقود التي تم توقيعها. كان تتويجا لتحسن العلاقات التدريجي الذي انطلق بعد زوال الخطر السوفياتي في أواخر التسعينات معلنا ولادة مرحلة جديدة من التعاون بين الجارين اللذين نادرا ما التقيا حول طاولة المصارحة والمصالحة. تركيا كانت دائما رأس حربة الغرب في مواجهته للاتحاد السوفياتي، وموسكو كانت تصر على تدمير خط الدفاع الغربي الأهم في الحيلولة دون تمدده. الترجمة الفورية والعملية للقاء القمة هذا كانت عقود التعاون النووي السلمي بين البلدين التي وقعت بعد أيام فقط خلال القمة الآسيوية التي عقدت في اسطنبول بمشاركة رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي أردوغان الذي وصف ما يجري بأنه العهد الذهبي في تاريخ العلاقات التركية - الروسية.

التقارب الأول جاء بعدما اقترحت القيادة الروسية في مطلع التسعينات أن تقود تركيا عمليات حماية حوض البحر الأسود باسم البلدين بسبب انشغالها بإعادة ترتيب شؤون بيتها، شرط ألا تشرك الأميركيين والأوروبيين في ذلك. الخطوة الثانية كانت مع زيارة أردوغان في منتصف صيف 2008 إلى موسكو لوضع حجر الأساس لإعادة تنظيم العلاقات الثنائية، أعقبتها بعد عام تقريبا زيارة تاريخية للرئيس الروسي بوتين وليتحول هذا إلى تقارب وانفتاح أشمل مع زيارة الرئيس الروسي الأخيرة التي كانت متعددة الجوانب والأهداف وتتجاوز بجميع الأحوال العلاقات الثنائية والمجاملات البروتوكولية إلى تعاون ثنائي وإقليمي شامل أغضب واشنطن وإسرائيل كما أزعج الكثير من العواصم الأوروبية.

أنقرة وموسكو نجحتا خلال السنوات الأخيرة في توقيع عشرات العقود والاتفاقيات، كان أهمها: قرار رفع مستوى التبادل التجاري الذي وصل اليوم إلى 38 مليار دولار لكن الأتراك يصرون على حمله إلى مائة مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.وشراكة استراتيجية في أكثر من خط إمدادات ونقل للغاز والنفط أهمها «حلم الجنوب» الذي سيضمن نقل الطاقة الروسية إلى ميناء جيهان التركي مما يوفر لأنقرة تخفيض مدفوعات مستوردات أكثر من 65 % من الغاز و35 % من النفط الروسي. والاستعداد لإلغاء تأشيرات الدخول وتخفيف القيود البيروقراطية في وجه مئات الشاحنات التي تعبر حدودهما يوميا. وإقامة جامعة تركية - روسية مشتركة.

لكن المشروع الأهم يبقى طبعا اتفاق أنقرة وموسكو على إقامة مفاعل نووي للأغراض السلمية في منطقة مرسين الواقعة على البحر المتوسط بتمويل تركي روسي مشترك. وهو أكثر ما أغضب إسرائيل التي يقلقها إطلاق مشاريع من هذا النوع تحرمها فرصة التفرد والتفوق في هذا المجال.

«بوزكورت» الذئب التركي الأصفر بطل الأسطورة التاريخية التي سهلت للأتراك الخروج من عزلتهم والانتشار في بقاع الأرض، التقى الدب السيبري الذي جاء مرة أخرى للاصطياد في المياه الدافئة، فرجح مغازلته على غير عادة بدل مواجهته والاصطدام به. قبلة الذئب التركي على جبين الدب الروسي قبلة عثمانية بامتياز، خصوصا أن الكثير من المؤشرات تقول إنها قد تتحول إلى لحظة وئام وانسجام لم نرها من قبل في علاقاتهما الدائمة التناحر والتشاجر، وهذا ما تحتاجه أنقرة قبل موسكو في هذه الآونة.

المؤكد أن التقارب التركي - الروسي هذا لن يحقق للقوميين المتشددين في البلدين حلم «الأوروآسيوية»، المشروع القديم الجديد الذي يراودهم كبديل للتقارب التركي الغربي، لكنه رسالة علنية مباشرة إلى كل من واشنطن وبروكسل على السواء أن تركيا ماضية في سياسة انفتاحية إقليمية شاملة تتضمن بدائل وخيارات جديدة تلجأ إليها عند الضرورة. تنسيق روسي - تركي على هذا النحو يعني توحيد الاستراتيجيات في رقعة جغرافية واسعة تشمل البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والأناضول بكل ما تحتويه من غنى وموارد بشرية واقتصادية وحيوية. لكن موسكو وهي تسلك نهجا استراتيجيا جديدا أكثر ليونة وانفتاحا في علاقاتها مع دول الجوار لن تتردد في التكشير والكشف عن عضلاتها عند الضرورة كما حدث مؤخرا في الحرب الجورجية حتى ولو كان الجار التركي هو المعني. وهي مثلا رغم كل هذا التقارب والانفتاح ترفض تقديم يد العون المباشر في ملفين يزعجان الأتراك دائما هما مسألة النزاع في ناغورني قره باخ والعلاقة التركية الأرمنية، حيث تعرف أنقرة أن موسكو قادرة على التأثير مباشرة في مسار هذين الموضوعين وحسمهما إذا ما قررت ذلك.