حدود عربية

TT

«حدود مختلقة بين دولنا العربية، خلقها الاستعمار البغيض، وهي غير موجودة في الواقع سوى في كتب الجغرافيا». عبارة - أو ما يشبهها - تكررت على مسامعنا صغارا، وكانت تبسِّط لنا الأمر برومانسية، تثير فينا حماسة الحلم الجميل: أزيحوا الحدود، فتتحقق الوحدة العربية.

أغلقت السودان الحدود مع جارتها العربية الشقيقة ليبيا الأسبوع الماضي. المبرر السوداني الرسمي هو وقف التهريب والحفاظ على أرواح المواطنين من قطاع الطرق!

يذكر أن الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى كانت ممن حاولوا التوسط بين أطراف النزاع في دارفور، ولكن يبدو أن محاولاتها لم تنجح. كما حاولت الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، بقيادة العقيد معمر القذافي، محاولات دؤوبة لتحقيق الوحدة العربية، وإزالة الحدود بينها وبين جيرانها، وبين العرب جميعا: جرى ذلك في السبعينات بمسيرة خضراء تجتاز الحدود نحو مصر، ولكن المسألة لم تنجح، واندلعت بعد تلك المسيرة حرب بين البلدين عام، 1977 أدت إلى إغلاق الحدود بينهما سنوات طويلة. لكن محاولات العقيد القذافي للوحدة لم تتوقف طيلة 42 سنة من حكمه منذ عام 1969. فبعد مصر جرب الوحدة مع سورية، وأيضا لم يكتب لتلك الوحدة النجاح، فكان أن عمل مع قادة دول المغرب العربي على تشكيل اتحاد دول المغرب، ولكن ذلك الاتحاد آل إلى ما آلت إليه المحاولات السابقة، فأغلقت الحدود بين ليبيا وتونس مؤقتا، وما زالت الحدود مغلقة بين الجزائر والمغرب. لم تتوقف محاولات الأخ العقيد معمر القذافي عند الوحدة، أي وحدة. و«غسل يده» من العرب، كما يقول أهل الخليج، واستدار جنوبا نحو القارة السوداء، وشكل اتحادا أفريقيا، ونصب نفسه «ملك ملوكه». ثم استدار العقيد «عَرَبا» هذه الأيام، طارحا بديلا جديدا للجامعة العربية، سماه «جامعة الاتحاد العربي»، بدلا من «جامعة الدول العربية».

والحق أن المحاولات الليبية السريعة للوحدة لم تكن بدعة ليبية، فقد سبقتها الوحدة بين مصر وسورية عام 1959، وانتهت بـ«تسريح بإحسان» بعد مرور ثلاث سنوات فقط لا غير. وفي السبعينات، كادت سورية والعراق تحققان وحدة اندماجية، لتشابه نظام حكميهما البعثي حينها، ففُتحت الحدود، وبدأ التنقل بالبطاقة بين البلدين، ولكن الوحدة أجهضت بانقلاب صدام حسين على البكر عام 1979، واتهام سورية بالوقوف وراء محاولة انقلابية في العراق، وبدأت حرب إذاعية، وأيضا أغلقت الحدود بين البلدين الشقيقين! وما زالت الحدود مغلقة بينهما، إثر اتهام المالكي دمشق صراحة بالوقوف وراء تفجيرات أغسطس (آب) الماضي! حتى الوحدة اليمنية، التي تحققت بقرارات بين صنعاء وعدن، يطالب أهل شطرها الجنوبي هذه الأيام بالانفصال وعودة الحدود بينهما.

المحاولات الرسمية للوحدة العربية ترجمة للشعارات الستينية، باءت جميعا بالفشل بدرجة امتياز. وكان أبشع صور تلك «الوحدة» نموذج الضم بالقوة، الذي ارتكبه صدام حسين بحمق ضد الكويت عام 1990، والنتيجة معروفة لكل قارئ متابع.

لا يوجد عربي لا يتطلع لحلم جميل يزيل الحدود، لكن الحدود التي خططها الاستعمار، ثبَّتناها نحن بأيدينا، وعضضنا عليها بالنواجذ والمخابرات وأجهزة الأمن، وهي حدود لن تزيلها القرارات العنترية، ولا الخطب الحماسية، ذلك أنها أصبحت حدودا داخل أنفسنا، مغروسة في أعلامنا وإعلامنا ومناهجنا ومستوياتنا المتفاوتة في الدخل والحرية والكرامة والمهانة.

إن تحقيق الحلم العربي بالوحدة يبدأ في البيت والشارع والمنهج المدرسي والإعلامي، ويتكرس بحق الناس في الحوار والنقاش والتفكير النقدي والصريح والتنمية والديمقراطية، وإلا بقي الحلم وهما، والحدود واقعا، والفرقة نهجا بيننا كعرب.

وهنا تنتهي حدود هذه الزاوية!