النقيض المكمل

TT

أراد زياد الرحباني، منذ بدايته، أن يكون نقضا لمسيرة أبيه عاصي وعمه منصور. أفاق على عالم يريد أن يتمرد عليه، عالم قديم يخجل به أمام أترابه، الباحثين هم أيضا عن «الحقيقة». و«الحقيقة» ليس فيها شيء من جماليات ذلك العالم المغني والمغرد والمتصالح، الذي وضعه «الأخوان الرحباني» على المسرح، بين أعمدة بعلبك، مؤكدين على «خياليته» بصوت فيروز، الذي هو شيء بين الصوت والخيال.

حاول زياد، من خلال مسرحيات مذهلة، وحوار «فيلليني»، وأدوار عبثية، أن يلغي مناخات الرحابنة الأول. نقل المسرح من قرية صافية إلى مدينة صاخبة وملوثة، ونقل العائلة من بيت عال إلى منزل آثم، قائم على تجارة الجسد في تواطؤ مكشوف بين الزوج النذل والزوجة الخائنة. ونقل السياسة اللبنانية من المختار والناطور والشاويش إلى الخطف والقتل على الهوية والنزاع الطائفي.

ضحك اللبنانيون في خضم الحرب من أنفسهم ومن أقنعتهم. ونشأ جيل يلتحق بزياد بدل معلميه. وقامت لغة مسرحية جديدة، بتعابيرها وأشخاصها ونكاتها الحادة. وأضاف زياد إلى كل ذلك لحنا جديدا وإيقاعا جديدا واتجاها جديدا في الموسيقى. ونزع الرومانسية الحالمة من صوت فيروز. وبدل «نحنا والقمر جيران» و«سوقي القطيع إلى المراعي» صارت تغني «عودك رنان يا بو علي» و«بحبك انت.. ملا انت». وقد قام مسرح الرحابنة على مصالحة اللبنانيين المتخاصمين أبدا، فيما ركز زياد على تأنيبهم وإعلان أخطائهم ومخابئهم وتكاذبهم. وألغى من مسرحياته «النهايات السعيدة»، تاركا الأشياء على ما هي، بلا تلميع أو تشذيب أو أمل.

شكل الرحابنة الأوائل، في مسرحهم المأخوذ من الفولكلور الذي تغلب عليه الكآبة وميلانخوليا الفقر والتعب، نقطة وسطية في حياة لبنان، يلتقي حولها الجميع. ودجن صوت فيروز المتعالين والقبضايات وصرامة الشاويش. واختار زياد أقصى اليسار والمنازلة ورفض الوسطية. ونقل الدفاع عن الفقراء وأحزانهم إلى هجوم على الأغنياء وانتمى إلى «الحزب الشيوعي». ثم ما لبث أن تمرد على الحزب تمرد الفنان على ما يبلغ أو ينال.

«الملف» الذي تنشره «الآداب» عن زياد الرحباني، يخشى أن يتساءل: ماذا حدث لزياد؟ أين مسرحه الساحر؟ لماذا توقفت موسيقاه؟ لماذا لم يعثر لنفسه عن صيغة جديدة إذا كان قد سئم الصيغ القديمة؟ كيف يمكن لمن يمتلك حقوق صوت فيروز أن يكف؟