الإعلام الحر للقرن الجديد!!

TT

هذا هو العنوان الفرعي لكتاب لي بولينجر، رئيس جامعة كولومبيا، أما العنوان الأساسي «Unlimited, Robust and wide – open» فهو: غير مقيد وحيوي، ومنفتح جدا. وقد كانت مصادفة قيمة أن أقرأ هذا الكتاب في طريقي إلى عدد من دول أميركا الجنوبية التي وإن زرت بلدين منها في الماضي زيارة سريعة، فإنني لا أدعي معرفتها إلا من خلال ما يصلني من الإعلام عنها. بالنسبة لقارئة من العالم العربي،

تابعت معالجة الإعلام الغربي لقضايانا على مدى سنوات، وتساءلت في أماكن عدة عن إشكالية إخفاء المعلومة أو اختفاء الصحافيين أو قتلهم في الأماكن الساخنة من منطقتنا، شكل هذا الكتاب فرصة نادرة للتعرف على تفكير وتحليل مفكر أميركي مطلع ومتابع لإشكالية الإعلام الحر على المستوى الأميركي وفي العالم.

ومن الواضح أن بولينجر قد أجرى أبحاثا لسنوات، وعالج دقائق الموضوع القانونية والتاريخية وتطورات الموقف من الإعلام في الولايات المتحدة، وهو عمل يستحق عليه الثناء، وطرح أسئلة جريئة وصعبة ومعقدة تتعلق بالأمن الوطني وحرية الصحافة، والعلاقة بين الجيش والإعلام في أوقات الحروب، وعلاقة الإعلام المحلي بالإعلام الوطني وأيهما يجب أن يأخذ السبق ولماذا، وحرية الإعلام من السيطرة الحكومية أم من الشركات المالكة وجماعات الضغط، وبهذا فإن هذا الكتاب من أجمل وأمتع الكتب التي قرأتها في السنوات الأخيرة. ومع قناعتي بأنني لا أقدم للقارئ قراءة وتحليلا نقديا للكتاب الآن، إلا أنني أريد أن أبدأ منه لأعالج نقطة تحتاج إلى كتاب ثان لمعالجتها، ألا وهي النقطة التي كرس لها بولينجر فصلا: «بغض النظر عن الحدود»، أي ماذا تعني عولمة الإعلام اليوم، وكيف تسير التطورات في هذا الصدد.

المشكلة في هذا الموضوع، الذي هو موضوع اهتمامي هنا، هي أن بولينجر قد اعتبر الولايات المتحدة أنموذجا لحرية الإعلام، رغم نقاط الضعف التي تعرض لبعضها، وعبر عن تفاؤله في تطبيق هذا النموذج في العالم، بحيث يتعلم العالم، ويقبل حرية الإعلام التي أثبتت قانونيتها وجدواها في الولايات المتحدة. ومع أنه ذكر إشكالية ملكية شركات كبرى للإعلام، وسيطرة الإعلام الوطني وإحلاله تماما مكان الإعلام المحلي والمناطقي، إلا أنه لم يتوقف طويلا عند الآثار الكارثية لهذا التحول في جمع وتوثيق المعلومة، واعتبر أن حرية الإعلام هي الحرية من سيطرة الحكومة، ولكن ماذا عن سيطرة شركات أو توجهات أو أصحاب مصالح أو أيديولوجيات معينة على الإعلام؟ أوَليست هذه كتلك؟ واعتبر انتشار وسائل إعلام أميركية في العالم أمرا بغاية الأهمية كي تتعلّم دول العالم أهمية الإعلام الحر، ولكنه لم يواجه الأسباب الحقيقية لفشل تلفزيون «الحرة»، على سبيل المثال، في العالم العربي كأنموذج لهذا الإعلام.

كما أنه تحدث عن قتل صحافيين في مناطق مختلفة من العالم كظاهرة خطيرة على الإعلام، إلا أنه لم يتعرض لقتل الصحافيين في العراق وفلسطين الذين أثبتت كل القرائن والدلائل أنهم قتلوا بشكل متعمد، ولم يذكر القصف الأميركي لفندق فلسطين في بغداد، الذي كان معروفا بأنه موئل الإعلاميين في وقت الحرب.

إن شبكات التلفزة الغربية الموجهة إلى الشرق الأوسط، التي رأى بها بولينجر أملا في نشر ثقافة الإعلام الحر في منطقتنا، نرى بها أداة مكملة للهيمنة السياسية والاقتصادية التي تفرضها الدول الصناعية المتقدمة على دولنا الناهضة. ونحن لا نرى في هذا الإعلام القادم إلينا وسيلة لكسر القيود على إعلامنا، بل تعويما لسياسة المستعمر، وتجاهلا لحضارتنا وثقافتنا بل ووجهة نظرنا في مجريات الأمور. وهنا أود أن أتطرق إلى موضوع تلفزيون «الحرة» كنموذج في المنطقة العربية حيث لا يقبل آلاف المفكرين والكتاب مجرد الظهور على هذه الوسيلة الإعلامية، ذلك لأنها سقطت علينا بالباراشوت لتروج للحرب على العراق، وتبرر التعذيب في سجن أبو غريب، وتتجاهل العذابات والألم العربي الناجم عن ذلك، وتطنّب لديمقراطية في العراق كلفت الشعب العراقي حياته، وهناءه واستقراره وأمنه ومستقبل أطفاله. أي أن بولينجر يعتقد أن الإعلام القادم من الغرب يعمل في عالم واحد، ويُنظر إليه كمساعد على تحرير الإعلام في بلداننا، ولكن الحقيقة هي أن أبناء المنطقة يرونه كأداة متقدمه للترويج للحروب التي تشن علينا، وتبرير قتلنا ونهب ثرواتنا.

فأين هو الحديث في وسائل الإعلام الغربية عن مليون شهيد قتلوا في العراق، وعن 70% من أطفال العراق الذين لا يتمكنون من الذهاب إلى المدارس نتيجة الوضع الأمني، وعن مليون أرملة أعادت وضع المرأة في العراق إلى ما قبل العصور الوسطى؟ وأين هو الحديث في «الإعلام الغربي الحر» عن حق الفلسطينيين في أرضهم وديارهم، وعن جرائم إسرائيل اليومية في غزة والضفة؟ نحن لا نشعر أننا في منطقتنا شركاء متساوون في الإنسانية مع من يوجه إعلامه فقط لاستكمال القبضة العسكرية والسياسية على شعوب منطقتنا، وليس لإعطاء مثل عن حرية الإعلام وفوائد هذه الحرية للمصلحة الوطنية أو العالمية.

كانت كوبا، ولحسن الحظ، إحدى المحطات التي تسنت لي زيارتها للمرة الأولى خلال هذه الجولة، وأنا أستكمل قراءة كتاب بولينجر. وطبعا كل ما أقرأه وأشاهده عن كوبا يصلني من خلال هذا «الإعلام الحر»، الذي عقد بولينجر الآمال على تعميمه في هذا العالم المعولم. ولم أعلم ماذا أتوقع أن أرى في هافانا سوى ربما قرية صغيرة مليئة بالمتسولين والجائعين والسارقين نتيجة هذا الحصار الذي استمر على هذه الجزيرة منذ نصف قرن ونيف، ونتيجة هذه الصورة البائسة التي ينقلها هذا الإعلام عن العيش في هذه الجزيرة. والمفاجأة كانت أن هافانا هي من أجمل المدن التي شاهدتها، وأن نعمة الحصار عليها قد منعت أصحاب رؤوس الأموال من القدوم إلى هذه الجزيرة وشراء مبانيها التراثية الجميلة وهدمها وبناء أبراج مكانها، كما حدث في معظم المدن القديمة في العالم التي إما دمرت قصدا في الحروب، كما حدث في العراق، أو بسبب استيطان عنصري بشع كما يحدث اليوم في القدس على مرأى ومسمع من «العالم الحر»، أو كما حدث في مدن عربية باسم الحداثة والتطور، وما هو إلا قتل متعمد للتراث والهوية.

مدينة هافانا القديمة من أضخم المدن القديمة في العالم، وأشجارها تحكي قصص مئات السنين التي مرت على جذوع شكلت بحد ذاتها لوحة فنية تسر الرائي، وتنعش روح المهتم بالحضارة والتاريخ. تتجول في هافانا القديمة بإحساس شديد بالأمن والمودة حيث تختلط الأعراق والأديان في مجتمع لا يحمل أي شعور عنصري ضد عرق أو لون أو طائفة، وتجوب جميع الشوارع فلا ترى متسولا أو مشردا. قد لا يكون الوضع المادي للسكان هنا يسمح بامتلاك أشياء مادية كثيرة، إلا أنه من الواضح أن الحاجات الأساسية متوفرة للجميع، فهل هذا ما يمكن أن تدعيه بعض الدول الغنية جدا والمتقدمة صناعيا؟ ثم هل نحن سعداء بخلق تلك الروح المتسابقة على امتلاك ما لسنا بحاجة له، وأكل ما لا نستطيع هضمه واقتناء أشياء تفوق بمرات حاجتنا إليها؟ هل الروح الاستهلاكية وحب الشراء من النتائج الإيجابية للحداثة؟ أم أنها شوهت مفاهيمنا للحياة بحيث نعمل ليل نهار لامتلاك أشياء لا وقت لدينا للاستمتاع بها، أو حتى لاستخدامها أحيانا؟ وإذا كانت حقوق الإنسان هي النقطة الأساس بين الولايات المتحدة وكوبا، فهل سمعتم أن كوبا هي التي فتحت سجن غوانتانامو على أرض كوبية تحتلها الولايات المتحدة؟ أوَليس من المناسب أن يبدأ النقاش بين الولايات المتحدة وكوبا حول حقوق الإنسان من إغلاق سجن غوانتانامو وتنفيذ الولايات المتحدة لتعهداتها بإخلاء الجزيرة وإلغاء الحصار؟!

هل تعلمون كم تدفع الولايات المتحدة لكوبا أجرة «استئجار» غوانتانامو كي لا يُقال احتلال: أربعة آلاف وخمسمائة دولار في العام. هل يذكر «الإعلام الحر» هذه الحقائق حين يخبرنا عن كوبا، أم أنه علينا أن نسافر إلى كوبا كي نعلم ماذا يجري هناك؟ أوَ لا يعني هذا أن «الإعلام الحر» للقرن الجديد بحاجة إلى مقاربة مختلفة يشترك بها أصحاب المصلحة في تغيير هذا الإعلام؟ من إعلام تسيطر عليه شركات ومجموعات ضغط وأصحاب أيديولوجيات ومصالح يعتبرون أنفسهم خبراء وفاتحين ومحررين إلى إعلام يصبح أبناء العالم في كل مناطقه شركاء في إنتاجه وليسوا مجرد زبائن أو مستهلكين له.