ديك على مزبلة!

TT

لا شيء يثير حفيظتي وحنقي أكثر من المتشدقين المفاخرين بأسلافهم، ويا ليتهم توقفوا عند ذلك وكفوا الناس غثاء (هرطقتهم)، ولكنهم مع ذلك يتبعون كلامهم الأجوف ذاك بالانتقاص والاحتقار للآخرين، وكأنهم هم الوحيدون في هذا العالم المقروء عليهم سورة الفاتحة منذ أن نزلوا من بطون أمهاتهم!

ولا أتذكر اسم الشاعر الذي قال: إن الفتى من يقول ها أنا ذا / ليس الفتى من يقول كان أبي.

بيت الشعر هذا هو من أوائل أبيات الشعر التي رسخت في ذهني عندما كنت في الصفوف الأولى الابتدائية، غير أنني من ذلك الوقت إلى الآن ما زلت أعيش بإحباط يتلوه إحباط من كثرة ما أسمع من اللغو والفخر الذي يشبه الفجور من أناس لا هم لهم إلا الاستعراض بأسلافهم، مع أن الواحد من هؤلاء لا تستطيع أن تأتمنه حتى ولا على رعي أربع من الماعز الجربانة، أقول كلامي هذا ولا بد أن أستدرك وأتساءل: هل أنا شخصيا التزمت بذلك أم أنني مجرد دعي؟!

ويحضرني في هذا الصدد، الموقف الذي وقفه (لويد جورج)، وكان والده يبيع على عربة حمراء يجرها حمار.

ففي سنة 1917 كان لويد جورج - وقد صار رئيس الوزارة - يطوف في البلاد يخطب في أهلها، وإذا برجل يتصدى له ويقول: «ومن تكون أنت؟! إنك لا تعدو غير ابن بائع متجول. وقد كنت أعرف أباك يوم كان يطوف بالبلاد ومعه حمار مربوط إلى عربة حمراء». فرد لويد جورج: «لا شك أنك عرفته. وأنا أذكر الحمار والعربة الحمراء أيضا. وقد احتفظت بالعربة إكراما لذكر أبي». ثم أشار بأصبعه إلى الرجل الذي تصدى له وقال: «ولكنني لم أعرف قبل اليوم ماذا كان مصير الحمار».

وفي موقف آخر مشابه كنت شاهدا عليه - مع الفارق - فقد كنت ضمن الجلوس للاستماع إلى محاضرة يلقيها أحد الأشخاص، وكان ينتمي لأسرة متواضعة، ولكنه رجل عصامي حفر الصخر بأظافره حتى وصل إلى ما وصل إليه من العلم والثقافة والأخلاق كذلك.

وكان من ضمن الحضور رجل لا أستطيع أن أقول عنه إنه سفيه، ولكنه بالفعل أقرب ما يكون إلى هذه الصفة، وعرف عنه التعالي الأجوف، وحقده وغيرته القاتلة من الشخص المحاضر، وهو الذي لا يملك من المزايا غير أن والده تاجر كبير - هذا إذا كانت تلك تعتبر ميزة - وبينما كان الجميع مصغين، وإذا بنا نتفاجأ ونسمع صوتا يتعالى من آخر القاعة، ويصيح مقلدا صوت الديك بإتقان قائلا: كوكو كوكو - لا أدري إذا كنت كتبتها صحا أم غلطا؟! - واتضح أن ذلك الأذان أو الصوت كان صادرا من ذلك الرجل الفخور الأجوف لكي يهزأ من كلام المحاضر.

بهت الجميع، وتضاحك البعض، وتوقف المحاضر عن الكلام برهة، غير أنه أعجبني بسرعة بديهته، عندما لم يهتز وإنما نظر إلى ساعته بهدوء وقال متسائلا: هل طلع الفجر علينا ونحن لا ندري؟! إن الساعة في يدي تشير إلى العاشرة، ولكنني لا أستبعد أبدا أنها مخطئة، لأن فصيلة الدواجن وعلى رأسها الديكة لا تخطئ في توقيتها. وما إن قال كلمته تلك حتى ضجت القاعة كلها بالتصفيق، واتجهت أنظار الجميع إلى الديك. ولا أنسى منظر ذلك الرجل الأجوف وهو يخرج من القاعة على عجل دون أن يلتفت إلى أحد.

وهو ذكرني بالديك الذي يقف بقدميه على قمة مزبلة، ثم يصيح بأعلى صوته مفتخرا بمكانه!

[email protected]