المعارضة خيار اللاأحد

TT

إذا كان هناك من توصيف للمشهد السياسي العراقي، وهو لا تفصله إلا بضعة أيام عن استحقاق دستوري يستوجب انعقاد البرلمان، وضرورة اختياره رئاسة للبرلمان، ومن ثم رئيسا للجمهورية، لفتح الطريق للتكليف بتشكيل الحكومة، ومن ثم تأليفها، فهو أنه مشهد ضبابي ولايقيني، إذ ما زالت المفاوضات لم تلامس جوهر المختلف عليه، والتحالفات ليست رصينة، بل العكس، هي هشة ومعرضة للتفكك، والحالة السياسية تتسم بالسيولة الكبيرة، بحيث لا يستبعد انفراط تحالفات وتشكل أخرى بين يوم وليلة، بل إنه حتى في داخل كل تحالف تُختزن الكثير من الخلافات المنتظرة لحظة التفجر.

لذا، فإن معرفة طريق تفكك هذه العقد والاتجاهات التي ستأخذها تبدو صعبة التنبؤ، ليست على المراقب فحسب، بل حتى على مهندسي هذه الائتلافات، وعلى القيادات الفاعلة فيها، إلا أن الراجح لدي، الذي أشترك فيه مع البعض منذ ظهور نتائج الانتخابات، هو أن الحكومة ستتشكل بالنهاية من الكتل الكبيرة الأربع الفائزة، رغم أن هذا السيناريو يبدو الآن أبعد عن التصور، لكون الشقة قد بعدت، والاختلافات قد استحكمت، والفيتوات وضعت بين أطراف هذه الكتل. بيد أنني أركن لهذا الاستنتاج متكئا على عاملين؛ الأول: العامل الخارجي، الذي سيتدخل ضاغطا في اللحظات الأخيرة، وفي عشية الاستحقاقات، وعند استحكام الانغلاقات، والثاني: هو الميل المشترك عند جميع الكتل، وإن صرحت بخلافه، لأن تكون جزءا من السلطة، لا المعارضة، فهي على اتفاقها جميعا على أهمية أن تكون هناك معارضة قوية لتصويب وتفعيل الأداء الحكومي، إلا أنه لا أحد يريد أن يكون في هذه المعارضة.

إن خيار المعارضة بذهاب كتل كبيرة له، وتفضيل شخصيات سياسية رئيسية أن تقود العمل المعارض لا العمل الحكومي، هو ليس بالخيار السيئ تماما، بل ربما في الحالة العراقية، وللظروف والمصاعب المتوقعة للمرحلة القادمة، فإنه خيار له مزاياه، وربما يكون الأسلم والأجدى على المدى الطويل، خصوصا إذا ما وضع مقابل شلل الحكم المتوقع، حيث سيأتي رئيس الحكومة القادم مكبلا بالقيود، وسيكون على رأس حكومة توافقات قلقة، تتطلب التسويات والترضيات المستمرة كشرط لبقائها، إذ بجانب الأغلبية العددية الواجب توافرها للحكومة، يجب أن يوازيها تمثيلا وحصصا للمكونات. ففي ضوء الاصطفاف الطائفي، الذي تكرس في الانتخابات والائتلافات التي تلته، فإن ثمن احتوائه سيكون بحكومة شراكة معلولة، ومليئة بالقيود، في حين أن ثمن تجاهله تمرد في نطاق جغرافي واسع، يجعل الحكم غير ممكن، كما أن إمكانية خلق أي قدر من الثقة داخل هذه الطبقة السياسية التي تتنازعها الانقسامات الإثنية والطائفية والمصالح الإقليمية، بغية دفعها إلى تسهيل عمل الحكومة، يبدو خيارا مكلفا، سيكون ثمنه الوحيد هو إغراقها بالامتيازات الحزبية والشخصية، وعلى حساب حاجات المواطن الذي عرف تبرمه وسأمه طريق التمرد.

مع كل هذه المقيدات والمصاعب، فإنه من غير المتوقع أن يقبل الكبار بالذهاب إلى خانة المعارضة، لكونهم جزءا من عقلية عامة ألفت احترام السلطة ونبذ المعارضة، ولخوفهم من فوات فرصة الإسهام في تشكل العراق، الذي هو ما زال في طور الصيرورة، وأن أي غياب عنه أو تغييب يفقد ذلك الطرف وضع مصالحه في خارطة التشكل، ولعدم رغبة الأطراف الإقليمية التي باتت داخله، وأصبحت جزءا من نسيج هذه الكتل، في أن تغيب بتأثيرها عن استحقاقات مفصلية، تنعكس بتأثيرها على أمن بلدانها واستقرار نظمها ومصالحها، فضلا عن أن السلطة وامتيازاتها ومنافعها باتت بمثابة الصمغ الذي يلصق كثيرا من الكتل، ويبقيها موحدة، وأن ذهابها إلى المعارضة وفقدانها إلى ذلك يقود إلى تشظيها وتفككها.

لذا، ليست هناك حاجة إلى كثير من الفطنة لإدراك أن السيناريو المتوقع والصورة التي ستنجح أخيرا، هي تلك القادرة على احتواء الجميع في الحكم، لكون خيار المعارضة الذي يتحدث عنه الجميع سيبقى خيار اللاأحد.