الفلسطينيون يواجهون خيارا صعبا لكن عليهم التحلي بالمزيد من الإيجابية

TT

لأن المفاوضات غير المباشرة، التي كانت تشبه القفز في المكان ذاته فوق حبل مشدود، لم تؤد إلى أي نتيجة ولم تحقق أي إنجاز وثبت أن كل ما قيل عن أنها حققت بعض التقدم في مجالي الأمن والحدود غير صحيح على الإطلاق فقد كان لا بد من البحث عن بديل آخر يجنب عملية السلام الجمود الذي من أسوأ ما سيترتب عليه أنه سيحولها بالنسبة للعالم وأيضا بالنسبة لمعظم العرب، إن ليس كلهم، إلى مسألة ثانوية تتقدم عليها الانشغالات الأخرى المستجدة كمواجهة الأزمة الاقتصادية الكونية الطاحنة وكالتصدي للإرهاب الذي كلما ظن الذين استمروا في معركة التصدي له منذ كارثة سبتمبر (أيلول) عام 2001 أنه على وشك التلاشي وخسارة هذه المعركة يثبت أن المواجهة معه ستتواصل لسنوات أخرى طويلة.

ولذلك فإنه على القيادة الفلسطينية الحقيقية التي هي منظمة التحرير والسلطة الوطنية التي على رأسها محمود عباس (أبو مازن) أن تعد إلى الألف وأن تضرب أخماسا في أسداس وأن تحسب جيدا وأن تدقق في معادلة هذه المنطقة ومعادلة العالم من دون تسرع ولا أوهام قبل أن تدير ظهرها لخيار المفاوضات المباشرة وتلقي بنفسها وبقضية شعبها في خضم الفراغ المهلك، وهذا ينطبق على العرب الذين لا تزال أيديهم تقبض على جمر هذه القضية والذين كانوا جربوا على مدى سنوات هذا الصراع المعقد والطويل مرارة الركض وراء السراب تجار الشعارات الكبيرة والأفعال القليلة، وكانت النتائج هي هذه النتائج المرعبة حيث باتت حال فلسطين كحال من يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت اشتداد الضغط على عنقه بقبضة متوحشة ثقيلة.

الذهاب إلى المفاوضات المباشرة التي تصر عليها الولايات المتحدة ويرمي الرئيس الأميركي باراك أوباما بكل ثقله وثقل بلاده، التي لا تزال رغم كل تغييرات السنوات الماضية من القرن الجديد هي القطب الكوني الأوحد، في اتجاه إلزام الفلسطينيين والإسرائيليين بها، ربما يعتبر مغامرة وبمثابة قفزة أخرى في الهواء في المكان ذاته. لكن ما العمل بالنسبة للقيادة الفلسطينية التي تحمل قضية شعبها في مثل هذا الظرف الصعب وفي ظل هذه المعادلة، الراجحة كفتها لمصلحة الخصم، والبديل هو الجمود وهو الفراغ وهو انكفاء غالبية العرب أكثر وأكثر نحو قضاياهم الخاصة وهو انصراف الأميركيين والأوروبيين ومعهم باقي ما تبقى من العالم إلى أولويات أخرى في مقدمتها الاستمرار في التصدي للأزمة الاقتصادية التي لا تزال متفاقمة ومواصلة المواجهة مع الإرهاب الذي غدت حاله كحال طائر الفينيق (العنقاء) في الأسطورة الإغريقية القديمة الذي كلما أُلقي بين ألسنة النيران ينهض من بين الرماد من جديد ويواصل تحليقه عاليا وكأن شيئا لم يكن.

ستسمع القيادة الفلسطينية ومعها العرب الذين يؤيدون قضية شعبها بالأفعال وليس بالصراخ الفارغ والمزايدات ما كانت سمعته عبر كل محطات هذه المسيرة الطويلة، وستتعرض لنفس الحملات التي كانت تعرضت لها حتى عندما أطلقت رصاصة ثورة فلسطين المعاصرة وعندما اتجهت بعد تجربة حصار بيروت نحو خوض الحرب السياسية وخوض معركة عملية السلام، وذلك بعد أن تأكدت من أنه لم يعد هناك أي مجال لمواصلة الحروب العربية، لكن عليها ألا تخضع لابتزاز المزايدين، وألا تنحني أمام صراخ الذين لم يلمس منهم الشعب الفلسطيني على مدى مسيرة كفاح طويل قدم خلاله مئات الألوف من الشهداء إلا العربدات الفارغة، وعليها أن تبقى تتعاطى مع العالم، وفي مقدمته الولايات المتحدة، بالطريقة التي تلزمه باعتبار الصراع في الشرق الأوسط على رأس أولوياته الرئيسية وبالطبع بحل الدولتين وبخارطة الطريق وتجعله مضطرا لأن يواصل ضغطه على هذه الحكومة الإسرائيلية «المعتوهة» التي على رأسها رجل سيثبت التاريخ أنه بأفعاله الطائشة يقود شعبه إلى «هولوكوست» آخر وإلى مذابح جديدة.

على القيادة الفلسطينية، كان الله في عونها، أن تغمض عينيها ولو للحظة واحدة وتفكر فيما قد يحصل، بل فيما سيحصل حتما، إن هي لم تأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة تصر على خيار المفاوضات المباشرة، وأن الاتحاد الأوروبي بات مع هذه المفاوضات بعد فشل المفاوضات غير المباشرة وكذلك روسيا والصين واليابان والكثير من دول العالم، إن ليس كلها. إن على الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، الذي ساقته الأقدار إلى هذا الموقع الذي لا يحسد عليه، أن يتخيل ما الذي سيحصل لقضيته ولشعبه إن هو أدار ظهره لهذا الخيار وإن هو لم يتخذ قراره وفق حسابات دقيقة مبنية ليس على الصراخ و«الزعبرات» الجهادية والثورية وإنما على الواقع الحالي بمعادلته الصعبة وبمرارته وقسوته.

كل المعلومات تؤكد أن بنيامين نتنياهو قد عاد من زيارته الأخيرة إلى واشنطن بغير ما كان عاد به من زيارته الفاشلة السابقة. فهذه المرة بدا باراك أوباما أكثر حمائمية وأكثر خضوعا لمعادلة الاستحقاقات الانتخابية التي ستجري بالنسبة لنصف عدد أعضاء الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل وأيضا أكثر تفهما لمطالبات حزبه، الحزب الديمقراطي، بأن لا يشطح بعيدا وأن يتعاطى مع أزمة الشرق الأوسط من زاوية ضرورة التجديد له كرئيس للولايات المتحدة في الانتخابات الرئاسية المقبلة التي وفقا للحسابات الأميركية باتت على الأبواب. لكن، ومع ذلك، على القيادة الفلسطينية أن تتعامل مع كل هذه المستجدات على أساس الإبقاء على الأميركيين في قلب عملية السلام ومنع العالم من الانكفاء والاهتمام بقضاياه الخاصة بعد أن ينفض يده من الشرق الأوسط وقضيته المعقدة.

سيأتي المبعوث الأميركي جورج ميتشل مجددا إلى هذه المنطقة بعد أيام حاملا معه مجرد تأكيد الرئيس باراك أوباما على استمرار التزامه بحل الدولتين، وحاملا معه أيضا تلك المسائل التي اعتبرها الأميركيون تقدما يتمثل في «حسن نوايا» بنيامين نتنياهو تجاه عملية السلام وحقيقة أنه لا يمكن اعتبار هذه المسائل إلا ثانوية وتافهة أيضا إذا عرفنا أنها تقتصر على تخفيف اجتياحات الجيش الإسرائيلي لمدن وقرى الضفة الغربية وعلى مجرد الوعد بعدم القيام بأي اعتقالات للمواطنين الفلسطينيين إلا استجابة للدواعي الأمنية الملحة وذلك بالإضافة إلى وعد بالسماح لحكومة سلام فياض بمد طريق طوله نحو كيلومتر ونصف الكيلومتر يربط ضاحية «الروابي» الراقية الجديدة، إلى الشمال من مدينة رام الله، بمدينة بيرزيت المعروفة، وبالإضافة إلى وعد آخر بالنظر في طلب قديم بالسماح للسلطة الوطنية بإنشاء مجمع سياحي يتكون من عدد من الفنادق الفارهة على شواطئ البحر الميت الشمالية في اتجاه مدينة أريحا.

لكن ومع ذلك أيضا، فإن ضرورات الحفر بالأظافر في «صوان» هذه المعادلة الصعبة تقتضي أن تستقبل القيادة الفلسطينية الموفد الأميركي بمنتهى الإيجابية، وأن تؤكد له أنها خاضت غمار المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين أكثر من مرة آخرها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت، وأنها لتحاشي الفشل مجددا ترى أن هناك ضرورة ملحة للاتفاق المسبق على جدول زمني لهذه المفاوضات وضرورة ملحة لأن يتم التفاوض وفقا لسقف زمني محدد وأن تكون المشاركة الأميركية فيه كطرف رئيسي وبصورة فعلية.