ركائز ثقافة الحوار والسلام.. في البرنامج العالمي للعاهل السعودي

TT

هذه مسيرة سعودية جديدة ينبغي «منهجة» وقائعها وأحداثها ومضامينها. مسيرة الالتصاق الوثيق بعالمنا الإنساني الفسيح في «الصالون الكبير المشترك»، وهو كوكب الأرض.

الملك عبد الله بن عبد العزيز ليس في حاجة إلى ثناء من أمثالنا، فهو ملء السمع والبصر - وطنيا وعالميا - ولكن من التقدير الواجب أن نقول: إن هذه المسيرة ارتبطت باسمه، وليس هناك من عجب. فهو رجل مفعم بآمال وتطلعات ورؤى تتجاوز محيط وطنه إلى «الوطن الكوكب»، أي إلى سكان كوكب الأرض (سبعة مليارات إنسان).. نعم، لقد اتسع صدر هذا الرجل لهموم أسرته البشرية الكبيرة، فأخذ يركض من أجل الإلهام الفاعل في تقديم البدائل والصيغ الحضارية الهادفة إلى إيجاد عالم إنساني أكثر عقلانية وسعادة، وأقل حمقا وشقوة..

ما مناسبة هذا الكلام؟

مناسبته قرار مجلس الوزراء السعودي في الأسبوع الماضي الذي كان مضمونه الموافقة على التباحث مع اليونيسكو بشأن إبرام اتفاق لإنشاء برنامج باسم «برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي لثقافة الحوار والسلام».. وجوهر البرنامج وعماده هو إحلال ثقافة الحوار والتفاهم والتعارف والتعاون والسلام محل ثقافة النبذ والإقصاء والكراهية والصراع والنطاح والعدوان والحروب والدمار.. وهذا البرنامج التقدمي - بالمقياس الإنساني العام - مصبوب في نهر مبادرات الملك السابقة في مجال الحوار بين ثقافات الأمم، والحوار بين أتباع الديانات المختلفة.

ولقد اغتبطنا بهذا البرنامج لسببين، أولا: لأنه يحمل اسم قائد مسيرتنا. وهذا شرف ومكسب لكل مواطن سعودي «يعي» ويدرك أن دوائر كثيرة تحاول عزل المملكة، وتحرص على تشويه صورتها لدى الرأي العام العالمي، كما يعي أن مثل هذا البرنامج إبطال صاعق لهذه المحاولات البائسة.. والسبب الثاني هو أننا من محبي ثقافة الحوار والسلام، إذ هي الأصل في «العلاقات الإنسانية»، بمعيار «وحدة الجنس البشري»، وبمقياس أن القرآن كتاب «حوار» مع الذات، ومع أهل الكتاب، ومع المشركين، ومع كل ذي عقل من بني آدم، أنى كان مذهبه، أمس واليوم وغدا.

ثم إن هذا البرنامج «حجة» قوية بين أيدينا نحن معشر الكتّاب.. حجة تتيح لنا صب اليأس في نفوس الذين يجهدون أنفسهم - من هنا وهناك - في حشر «السعوديين» واختصارهم في مفاهيم أضيق من جحر ضب، تحت عناوين شتى.. تيئيس هؤلاء من بلوغ أهدافهم في الحشر والتضييق والتشويه والعزل.

فالسعودية اليوم يقودها رجل ذو رؤية عالمية إنسانية متفتحة، تدحر المفاهيم الصغيرة المتحجرة التي تتصور مساحة سطح الكرة الأرضية (198 مليون ميل) في حجم قرية مساحتها أقل من عشرة كيلومترات! أو تتصور سبعة مليارات إنسان في صورة عشيرة تعد بالمئات، أو تتصور أن الكوكب لا يتسع إلا لأتباع دين واحد على حين أن الله نفسه - سبحانه - قد قال: «وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ». جميع الأنام، وهم الناس كافة، مؤمنهم وكافرهم.

والحق أنه منذ وقعت الأحداث النكدة في 11 سبتمبر (أيلول) 2001 اشتدت حملة الحشر والتضييق والتشويه على السعوديين - بوجه خاص - وهنا يخطئ من يظن أن هذه الأحداث كانت فرصة (كما يرجف المغرضون) لتبديل النهج السعودي القائم على الإسلام، ذلك أن السعوديين - قيادة وشعبا - يدركون أن الإسلام العظيم ليس مسؤولا عن طيش سفهاء ينتسبون إليه، سواء كانوا سعوديين أو غير سعوديين، وبالتالي ليس من العقل ولا من العدل تحميل الإسلام جريرة أفعال هو نفسه حرّمها وجرّمها.. لكن يمكن القول إن هذه الأحداث النكدة كانت فرصة للتأمل الصدوق، وللعزم القوي على إظهار وجه الإسلام الحقيقي الذي تتبناه السعودية باعتزاز وشرف. إسلام العقل والعدل والحق والخير والجمال والسماحة والبر والسلام وقيم التحضر والتقدم والتنوير والتعارف الإنساني الحميم، الذي هو قاعدة التفاهم والحوار والتعاون.

ولعل السياق قد تهيأ لاجتلاء الحقيقة الكبرى، حقيقة أن الإسلام الحق لا يحرج أحدا. فرفع الحرج مقصد مكين من مقاصد الإسلام، ولا يقيّد أحدا بأغلال مصطنعة، فالأصل في منهجه هو الانطلاق الهائل - والتلقائي - في ساحات المباحات الرحبة، ولا يحد من طموح أحد، فهو قد انتدب الإنسان ليبلغ أعلى ذروة التقدم المفتوح السقف أبدا، ولذلك قال أحد أئمة الإسلام: «لو كانت النبوة تُنال بالكسب والتحصيل لوجب علينا السعي إليها»!.. وذلك كله يعني - بشفافية كاملة - أن المرجعية السعودية العليا (التي يستلهمها العاهل السعودي في حراكه الإنساني العالمي) هي مرجعية أوسع ملايين المرات مما يتصوره الكثيرون من الأعداء السافرين، ومن الأصدقاء الجهلة.

فهذه المرجعية تقوم - في ما يخص المجتمع الإنساني الأوسع - على الأسس التالية: أساس وحدة الجنس البشري.. وأساس تنوع الأعراق واللغات.. وأساس تعدد الشرائع والمناهج.. وأساس كرامة الإنسان - كل إنسان - وأساس التعارف الإنساني المفضي إلى الحوار والتعاون.. وأساس التعاون الإنساني من أجل مصلحة الإنسان وسعادته.. وأساس أن الأصل في العلاقات بين الأمم هو السلام.. وأساس محبة الخير لكل إنسان.. وأساس توحيد الرب وتقديسه بالإحسان إلى خلقه وفي مقدمتهم الناس.. وهي كلها أسس هتفت بها مرجعية السعوديين، أي هتف بها منهج الإسلام، وهذه هي ذاتها ركائز «برنامج عبد الله بن عبد العزيز العالمي لثقافة الحوار والسلام»، وهي ركائز لو أخذت بها الأسرة البشرية لظفرت بحياة أوفر راحة واستقرارا وأمنا وسلاما وسعادة، ولتفادت شرور التعصب والكراهية والظلم والصراع والاضطراب والإرهاب والعدوان والدمار.

من هنا فإن هذا «البرنامج» يلبي «حاجة بشرية» شديدة الإلحاح عالية الهتاف، وهي حاجة لم ينهض قادة العالم - حتى الآن - إلى الوفاء بها. فالعالم الإنساني لم يجد فرصته - أو لم يردها - خلال القرن العشرين للتفكير العميق في أوضاعه الاجتماعية والثقافية والفكرية والأخلاقية بهدف مراجعتها وإصلاحها. ففي مطالع القرن شُغل بمقدمات الحرب العالمية الأولى، ثم بها ذاتها، ثم بآثارها، وهي آثار امتدت - بضغطها واضطرابها - في العقل والقرار والفعل والزمن، حتى وقعت الحرب العالمية الثانية، وهي حرب انشغل العالم بعصفها وقصفها وبالتبدلات الضخمة.. الجغرافية والسياسية والاقتصادية.. ثم غرق العالم في «الحرب الباردة» وما اكتنفها من دعايات سوداء متبادلة، وصراع استخباراتي رهيب، وعراك مر على مناطق النفوذ، وسباق ماحق في التسلح.. لهذا كله استمرت الأزمات تضرب البشرية وتشقيها، على حين أنها مشكلات تختبر - بدقة وصرامة - ضمير الرحمة بالبشرية، فالناس لا يُرحمون بتوفير الخدمات المادية فحسب، وإنما يرحمون - كذلك - بتوفير المناخات الثقافية والاجتماعية التي تريح أعصابهم وتجعلهم يتنفسون استقرارا وسلاما.

إنها مهمة إنسانية تاريخية حضارية تتطلب عقد «قمة عالمية للمراجعة الحضارية»، فهل يأذن الملك الجليل بهذا الاقتراح؟ وإذا قدر لهذه القمة أن تعقد فهو فارسها وداعيها وحاديها.