التأبين التاريخي لمشهورين «مجهولين»

TT

لم أكد أفرغ من كتابة «التأبين التاريخي» للسياسي الفلسطيني محمد عودة (الاسم الحركي «أبو داود») لصحيفتين بريطانيتين، حتى اتصل بي مسؤول صفحات التوثيق في «الإندبندنت» يطلب تحرير تأبين بروفسور الفلسفة الإسلامية، المصري المولد، الهولندي الجنسية الدكتور نصر حامد أبو زيد، الذي مات من فيروس مجهول في 4 يوليو (تموز).

التأبين أو المرثية ترجمة غير دقيقة لـ obituaryبالإنجليزية. والمعنى التوصيفي «كشف حساب الإنجازات والهزائم الشخصي». وأرى أن تكتب الكلمة الإنجليزية بالعربية «أوبيتيوري».

فالصحافيون العرب يقولون مانشيت. وهي كلمة واحدة تغني عن خمس «العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى»؛ فإما نكتب «أوبيتيوري» كما نكتب مانشيت، أو نقول «التأبين التأريخي» والهمزة على الألف السابقة للراء.

فالمقطع «Obit» من اللاتينية «obitus» اسم من الفعل «obire» وتعني رحل، واندثر، أو تلاشى. ظهرت «Obit» في القرن الـ12 مع ظهور السجلات، كإعلان الوفاة. ثم تطورت مع ظهور المطبوعات بإضفاء الإشهار الرسمي «obitual» (وهي صفة من اللاتينية) وتأنجلزت إلى «Obituary» واكتسبت بمرور الوقت طابع التوثيق لحياة الشخص وإنجازاته (أو جرائمه كتأبينات علي حسن المجيد «الكيماوي»).

الصحافي الموثق «obituarist» يحترمه محرر شارع الصحافة كمرجع لتوثيق التاريخ المعاصر (وأنا من الموثقين، إذ نشرت على مدى قرابة 4 عقود تأبينات تاريخية لمصريين كأم كلثوم، وأنور السادات، وعرب كالملك حسين، والشيخ زايد آل نهيان؛ أو إنجليز مستعربين كغلوب باشا، والسير ديفيد غوربوث، أو أصدقاء كيوسف شاهين، أو زملاء آخرهم إيان كريغ؛ وأمنيتي أن يراعي موثق تأبيني، عندما تحين الساعة، الدقة ويتكبد الجهد نفسه الذي أبذله في توثيق المعلومات).

لكن لماذا يهتم قراء الـ«ديلي تلغراف» أو الـ«إندبندنت» الإنجليز بسياسي فلسطيني وأستاذ فلسفة مصري «مجهولين» بالنسبة لهم؟

وهذا هو أهم سؤال في ذهن محرر الـ«أوبيتيوري»: ما هي علاقة المتوفى بالأحداث التاريخية؟ وكيف أثر نشاطه في تطور أحداث تهم القارئ أو أثرت على حياته غالبا من دون أن يدري؟ ومهمة المحرر إلقاء الضوء عليها.

توثيق الـ«أوبيتيوري» بحث دقيق في السجلات والوثائق واتصالات بشهود عيان.

فأهم المراجع التي يلجأ مؤرخ إليها بعد عشرات أو مئات السنين هي صفحات السجل التوثيقي (أو الغازيت) والمعروف بـ«court pages» في أرشيف الصحف، كتأبينات الشخصيات المؤثرة المعاصرة.

وإذا كانت غالبية قراء الـ«إندبندنت» والـ«ديلي تلغراف» لم يسمعوا بمحمد عودة.. فلماذا نشرت الصحيفتان تأبينه؟

عودة كان مدبر مذبحة ميونيخ عام 1972 التي بدأت باقتحام ثمانية من أعضاء منظمة أيلول الأسود مقر الرياضيين الإسرائيليين في أولمبياد ميونيخ وقتْل اثنين وحجز 11. وبعد مفاوضات 20 ساعة اتُّفق على نقل الجميع لقاعدة جوية للسفر للقاهرة. أفلتت أعصاب الألمان فأرسلوا كوماندوز لتخليص الرهائن، فقُتل الـ11، والفلسطينيون الثمانية، وشرطي ألماني وجنديان. ورغم تغطيتي الحدث من ميونيخ ومقابلتي عودة عدة مرات وقراءتي كتابه عن المنظمة، فإنني قضيت يوما كاملا أراجع الوثائق وأتصل بالأحياء من المسؤولين والمشاركين في خمس عواصم لتوثيق نشأة عودة وجذور «أيلول الأسود» التي ولدت من رحم قتال ضار بين الجيش الأردني والمنظمات الفلسطينية التي هددت أمن البلاد في سبتمبر (أيلول) 1970، باختطاف الجبهة الشعبية لخمس طائرات مدنية؛ واستعرضت الاغتيالات المتبادلة بين «أيلول الأسود» والموساد وعلاقة أبي داود، بسورية والمخابرات الشيوعية.

أما قضية أبو زيد فترصد تراجع المستوى الثقافي الفكري المصري من منارة للعلم إلى عصر الظلمات.

النقاد وجدوا في أعمال أبو زيد (13 كتابا) التي تناقش فلسفة النصوص الإسلامية في إطار زمانها، بحثا علميا أكثر دقة من أعمال منافسيه. فغار المنافسون وهم زملاء جامعيون فألفوا لجنة (انتقيت بدقة المحسوبية الشهيرة في وادي النيل) لدراسة أعماله بعد ترشيحه لمنصب أستاذ الدراسات الإسلامية.

وبدلا من خروجها بتقرير يثري مكتبة التاريخ الإسلامي أو تقييم أعمال الرجل في إطارها الفلسفي، فإنها رفضتها شكلا «ككفر» واعتبرت الرجل «كافرا مرتدا».ولم يكتف المنافسون بحرمانه من الأستاذية، بل أرادوا التخلص منه بعد أن اعتبره تلاميذه قدوة في الاعتماد على الأدلة والبحث التاريخي المحايد من دون التأثر بآراء شخصية أو ضغوط سياسية.

هاجمه منافسوه من فوق منابر مساجد يسيطر عليها الإخوان والمتطرفون، واتهموه بالكفر (وأغلب جمهرة المصلين ليسوا بأكاديميين متخصصين في الفلسفة الإسلامية)، وهي تهمة خطيرة حيث اغتال متطرف مخبول المفكر المصري الراحل فرج فودة عام 1992؛ وطعن مخبول آخر الروائي المصري الراحل حامل جائزة نوبل نجيب محفوظ بسكين في رقبته بعد أن وجه إليه المشعوذون تهم الردة من فوق منابر سيطر عليها أئمة حفظوا القرآن من دون فهم معانيه، ولم يقرأوا في حياتهم كتابا.

العلاقة إذن بقراء الـ«ديلي تلغراف» أنهم يشاهدون صراعا بين إسلام الأغلبية الصامتة (لا أقول المعتدلة لأن الاعتدال هو القاعدة بينما التطرف هو الاستثناء) وإسلام الجهاديين الراديكاليين العالي الصوت من المفجرين أنفسهم على أرض بريطانيا.

«محاكمة» أبو زيد وزوجته أستاذة الأدب الفرنسي اعتدال يونس، وكانت أشبه بمحاكمات التفتيش الإسبانية في القرون الوسطى، تصبح أمرا يهم القارئ الإنجليزي المعاصر. فقد لجأ المحامون الإسلامويون إلى نبش قاعدة قانونية من محاكم القرن التاسع، غفلت عنها لجنة القانون في البرلمان المصري عند صياغة دستور 1923 عندما ألغت وعدلت قوانين مضحكة تعود إلى الحاكم بأمر الله الذي منع أكل الملوخية وجعل النوم ظهرا إجباريا.

ومن عصره جاءوا بتفسير «الحسبة»، أي اجتماع مسلمين لحماية الدين من شر كبير. الشر في نظرهم استمرار زواج الدكتور أبو زيد (بعد أن كفروه غيابيا) من المسلمة اعتدال، لأن الأولاد في التقاليد المصرية يتبعون دينه، أي لن يشبوا مسلمين!!!.

البروفسور أبو زيد بمنطق العلماء، رفض أن يستجوبه محامون (اعتبرهم دون مستواه العلمي، وهو الفيلسوف الأكثر علما بتفسير الدين منهم)، عما إذا كان مسلما أم لا، لأنها «مسألة شخصية في قلبه بينه وبين الله ولا شأن لمخلوق، حتى ولو قاضي محكمة، بهذا الأمر».

ولما حكمت المحكمة بطلاقهما، ترك الرجل وزوجته البلد «لحسبة المؤمنين» يلهون في برك جهلها، وتوجها إلى هولندا التي كسبت علما وعالمين منحتهما جنسيتها وكسب تلاميذ جامعة أوتريخت المعرفة والخبرة التي حرم طلاب مصر منها.

الأمر الذي لا أجد له تفسيرا هو غياب صفحات التوثيق، بما فيها التأبين التاريخي عن الصحف العربية، اللهم إلا إذا رحلت شخصية مشهورة أو زعيم، فتفرد صفحات الرثاء وقصائد المدح، من دون مراجعة علمية موثقة لها. فهل سنجد يوما صفحة يومية للتأبين الموثق في صحيفة عربية؟