ألم تعد فلسطين قضية العرب الأولى؟!

TT

أجرى موقع فضائية «العربية» الإلكتروني قبل أيام استطلاعا لمعرفة مدى اهتمام الإنسان العربي العادي بمفاوضات السلام الفلسطينية - الإسرائيلية المتعثرة، وقد جاءت النتيجة مفاجئة ومحبطة في الوقت ذاته حيث تبين أن نسبة 71% من المستطلعين لا يأبهون بهذا الأمر ولا يتابعونه ولا يريدون أن يعرفوا عنه شيئا. وحقيقة يعتبر هذا مؤشرا خطيرا حيث كان الاهتمام بالنسبة للعرب شعوبا وأنظمة بالعملية السلمية ومجرياتها وتطوراتها يرتقي إلى مستوى الاهتمام بالقضية الفلسطينية.

وهنا فإن ما لا نقاش فيه ولا اختلاف حوله هو أن تعثر عملية السلام، إن على المسار الفلسطيني وإن على المسار السوري، هو سبب عدم المبالاة هذه. فالإنسان العربي الذي بقي يتابع العملية السلمية ومحطاتها ومفاوضاتها التي تنقلت بين أماكن كثيرة قد انتهى به الأمر إلى عدم الاكتراث بعد أن أتعبه الانتظار وبعد أن ثبت أن الحل المنشود لا يزال بعيدا وأن الواقع الإسرائيلي بعد نحو 18 عاما من اتفاقيات أوسلو بقي يتجه نحو المزيد من التطرف واليمينية إلى أن انتهى إلى هذه الحكومة التي على رأسها عدد من «المعتوهين» سياسيا الذين ثبت بالأدلة القاطعة أنهم لا يريدون سلاما ولا يريدون إلا الحل الذي يستمدون أبعاده من الخرافات والأساطير التلمودية والتوراتية المزورة والمزيفة القديمة.

لقد بقي الموفد الأميركي جورج ميتشل يأتي إلى هذه المنطقة ويعود إلى بلاده دون تحقيق أي نتيجة. وهذا جعل حتى الفلسطينيين من أهل غزة والضفة الغربية يصابون بالإحباط والسأم ويتحولون عن هذه المسرحية المملة إلى قضاياهم المعيشية اليومية حيث الحصار الذي استطال أكثر من اللزوم، وحيث الفقر والبطالة والبطش الذي تمارسه حواجز الجيش الإسرائيلي على كل الطرق التي غدت غير سالكة وغير آمنة لا ليلا ولا نهارا بين كل المدن والقرى الفلسطينية.

الإنسان الفلسطيني في غزة لم يعد يهتم بمجيء جورج ميتشل ولا برواحه ولا بالمفاوضات المباشرة وغير المباشرة؛ فقضيته الرئيسية، وبخاصة بعد الانقلاب العسكري الذي نفذته حركة حماس وما تلا ذلك، أصبحت التخلص من هذا الحصار الظالم الذي استطال أكثر من اللزوم، وغدت توفير لقمة العيش وحبة وجرعة الدواء لأطفاله، والمحزن حقا أن هناك من أصبح تحت ضغط الظروف المعيشية القاسية يتمنى لو أن الأمور تعود إلى ما كانت عليه قبل اتفاقيات أوسلو وقبل تطورات ما بعد اتفاقيات أوسلو، حيث كان الألوف من العمال الفلسطينيين يتوجهون مع فجر كل يوم إلى إسرائيل عبر معبر «إرتيز» ليعملوا في المصانع والمزارع وورش البناء الإسرائيلية.

وهذا ينطبق وإن بنسبة أقل على إنسان الضفة الغربية الذي هو بدوره بات على قناعة تامة بأن إسرائيل بعد كل هذه التجربة الطويلة من التفاوض واللقاءات «العبثية» لا تريد السلام، وأنه لا نتيجة فعلية منتظرة من جولات جورج ميتشل ما دام هناك هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي على رأسها بنيامين نتنياهو، وما دام أنه ثبت في النهاية أن باراك أوباما لا يختلف حتى عن جورج بوش «الابن» بعد أن تراجع عن وعوده ومواقفه السابقة تحت ضغط الأوضاع الداخلية الأميركية وتحت ضغط التنظيمات و«اللوبيات» الصهيونية في الولايات المتحدة.

إن هذا يجب ألا يفهم على أن الإنسان الفلسطيني قد تخلى عن قضيته؛ فالفلسطينيون أثبتوا أنهم من أكثر شعوب الأرض استعدادا للتضحيات والمزيد من التضحيات من أجل قضيتهم ومن أجل تحرير وطنهم، لكن المشكلة تكمن في أن عملية السلام التي راهنوا عليها في البدايات قد أصبحت مجرد غطاء للقمع المنهجي الذي يمارسه الإسرائيليون ضدهم وأصبحت مجرد «ديكور» للحصار ولممارسات الحواجز الإسرائيلية. ولهذا فإنه أمر طبيعي أن ينصرف اهتمامهم إلى قضاياهم اليومية وعلى رأسها توفير لقمة العيش لأطفالهم وتوفير ولو الحدود الدنيا من الأمن لهم ولعائلاتهم.

إنه لا يمكن وعلى الإطلاق أن يتخلى الإنسان الفلسطيني عن قضيته وأن تصبح مطاردة لقمة العيش هي همه الأول الذي لا همّ له غيره والمسألة هنا هي أن الثقة بعملية السلام باتت معدومة وأن جولات جورج ميتشل لم تعد تحظى بما كانت تحظى به في البدايات. وهذا كله أدى إلى أن يتحول أهل قطاع غزة وأهل الضفة الغربية والفلسطينيون في كل مكان وبصورة عامة إلى قضاياهم اليومية، ولكن بانتظار أن تطرأ مستجدات على المعادلة السياسية في هذه المنطقة وفي العالم وتصبح هناك إمكانية فعلية لسلام حقيقي يضمن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة ويضمن للشعب الفلسطيني ما نصت عليه القرارات الدولية وأهمها القرار رقم (194) والقراران (242) و(338).

وبهذا فإن المشكلة الحقيقية تكمن في أن هناك انكفاء عربيا ملموسا، على مستوى الشعوب وعلى مستوى الأنظمة، تجاه القضية الفلسطينية التي من المفترض أنها لا تزال قضية العرب الأولى وهذا سببه أن هذه القضية قد استطالت أكثر من اللزوم، وأن حلها في العقدين الأخيرين قد تعثر، ثم إن هناك مشكلات وقضايا قد استجدت بالنسبة للعديد من الدول العربية جعلت هذه الدول وشعوبها أيضا تنشغل بها وتعطيها الأولوية حتى على حساب قضية فلسطين التي هي القضية الأساسية والرئيسية بالفعل.

لقد أصبح الإرهاب بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 يشكل تحديا خطيرا للعديد من الدول العربية، المشرقية منها والمغاربية، وهذا جعل هذه الدول التي ابتليت بهذه الظاهرة التي اجتاحت العالم كله تعطي الأولوية للدفاع عن نفسها والتصدي لهذا الخطر الحقيقي الذي لا يزال يشكل عبئا اقتصاديا وأمنيا وعسكريا على كل الدول العربية بلا استثناء حتى ولو دولة واحدة.

ثم وبالإضافة إلى هذا التحدي الذي استحوذ على أولويات الدول العربية التي ابتليت به ولا تزال، هناك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي غدت مسألة حياة أو موت بالنسبة لبعض هذه الدول. وهناك الانقسام الفلسطيني ومشكلة العراق ومشكلة اليمن المستجدة ومشكلة الصومال والسودان ومشكلة القدرات النووية الإيرانية وهذه المشكلات كلها أدت إلى تراجع الاهتمام ليس بعملية السلام ومسيرتها المتعثرة وإنما بالقضية الفلسطينية التي من حيث المبدأ هي لب الصراع في هذه المنطقة والتي هي قضية العرب الأولى وستبقى قضية العرب الأولى إلى أن تحل الحل العادل الذي يحقق للشعب الفلسطيني هدف قيام دولته المستقلة ويعيد لسورية أراضيها المحتلة وفقا لحدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967.

إنه تحول في غاية الخطورة بالفعل؛ أن يصبح العرب في حال ليس فقط لا تعنيهم جولات جورج ميتشل وعملية السلام المتعثرة، بل إن القضية الفلسطينية نفسها لم تعد تعتبر قضيتهم الرئيسية والأولى والأساسية، فهذا يشكل أكبر خدمة للإسرائيليين الذين كان آباؤهم المؤسسون يراهنون على أن هذه الأمة، أي الأمة العربية، ستمل هذا الصراع وأنها «ستزهق» الحروب، وهي ستضطر مع الوقت للانكفاء والتعايش مع واقع الحال وعلى أساس التسليم بوضعية «لا حرب ولا سلام» وترك الفلسطينيين يقلعون شوكهم بأنفسهم.