تفوق عوامل التعقيد على عوامل الحل!

TT

السؤال الذي بات شاغلا الجميع، هو متى تتشكل الحكومة، في ظل تتابع استهلاك المهل الزمنية من دون أن تلوح بوادر الحل؟ وفي تقديري أنه من غير الراجح رؤية حكومة مقدمة للبرلمان للمصادقة عليها قبل ملامسة سقف الستة أشهر على مرور الانتخابات. والخطر إذا ما تواترت هذه الاستعصاءات وتكررت في كل دورة انتخابية، فسنكون أمام تضييع لربع عمر كل دورة برلمانية ومن عمر الحكومة ما بين تشكيلها والاستعداد لانتخابات لاحقة. والخطر الثاني أن هذه الاستعصاءات ستتيح مدخلا وسوقا دورية لدول الجوار والإقليم النافذة في الشأن العراقي لتستغله لتصفية مشكلاتها عند كل دورة انتخاب عراقية، تماما كما جرى مع تشكل الحكومة اللبنانية الأخيرة، إذ لن يتم السماح بإنتاج وظهور حكومة حتى تكون جزءا من تسوية أو أن توظف كورقة للمساومات في ملفات الإقليم المزمنة والمستجدة، وحتى تحوز على توافقاتهم.

موضع ضعف التفاؤل أنه لا يبدو في المشهد إلا عوامل التعقيد، والذي يدلل عليها ويوضحها أزمة اللاعبين الكبار، وللتصنيف نأخذ ثلاثة منهم: واحد محلي والثاني إقليمي والآخر دولي. محليا الكتلة أو التحالف الأهم والأكبر هو تحالف الكتلتين الشيعيتين، الذي أنتج تحالفا بدا هدف اندماجه تشكيل الكتلة الأكبر لقطع الطريق على القائمة العراقية الفائز الأول انتخابيا من أن تكلف بتشكيل الحكومة، وباستثناء الاتفاق على الإعلان بقي هذا التحالف مختلفا في كل شيء، لكونه يختزن من عوامل التناقض بل أحيانا التناحر ما يفوق عوامل الفرقة، عن كتل من خارجه، فهو مختلف ومتنازع حتى على الهدف الذي أوجد من أجله، بعدم قدرته على الاتفاق على مرشح لرئاسة الحكومة أو على آلية مفضية لذلك. وسبب هذا التعطل يمكن عزوه لسببين على الأقل؛ الأول أن رئاسة الوزارة باتت، وبغرابة، مفتوحة ومطمح الجميع وبغض النظر عن الأوزان الانتخابية، فمن خذله الوزن الذاتي يعززه بالذهاب إلى استجلاب دعم الشركاء الوطنيين، أو بالمراهنة على تنامي نقمة الشارع لتوظيفها لحشر خصومه، أو أن يستقوي بدعم ورضا الأطراف الإقليمية، أو بخليط من كل ذلك. والثاني أن مجال التنازل بات ضيقا لبعض الكتل لكونها تخوض معركة بقاء، فهي لا تنظر لهذه اللحظة بل ترنو إلى ما بعد انقضاء الأربع سنين، فترى أنها إذا ما سلمت لمنافسها فإن ذلك إيذان بتراجعها إن لم يكن انقراضها من المشهد السياسي، بسبب أن خصمها سيبني شعبيته على حسابها مستغلا الموارد والمنجز وأدوات وبريق السلطة.

وهذا السبب الثاني يمكن أن يفسر لنا جزئيا الممانعة التي تبديها بعض هذه الكتل أمام الضغط الإقليمي الحليف، وهذا ينقلنا إلى اللاعب الثاني وهو الإقليمي، إذ كما بات معروفا فإن الساحة السياسية العراقية مقسمة إلى جبهتين؛ إحداهما تؤثر فيها إيران والثانية المحور العربي - التركي، موطن الغرابة هو ألا تستطيع إيران بنفوذها أن تدفع أقرب حلفائها في الائتلاف الشيعي للاتفاق على مرشح لتقديمه، خصوصا عندما تراهم وهم - بتناكفهم - يجازفون بتضييع فرصة الحكم، إذ لا هم ولا إيران اللاعب الوحيد لكي يضبطوا مخرجات اللعبة وفقا لرغباتهم وتوقيتاتهم، كما باتت تلوح مخاطر الوصول الحتمي إلى الحالة التي لا يمكن للمنطق أن يستمر في مجافاتها. فعاد لا يضمن إبقاء المكونات الأخرى مرتهنة وبأفق مفتوح للخلافات الشيعية - الشيعية. فباستمرار عجز هذا التحالف عن أن يتفق على مرشح ليقدمه، فإن القائمة العراقية تعود عند ذاك هي الأكبر عددا، التي لها أن تجرب التكليف.

العامل الثالث هو الدولي وأعني به بالطبع الأميركي، الذي عود العملية الديمقراطية في العراق أن يتدخل فيها لفك أزماتها واختناقاتها الدورية، إذ يبدو للناظر أن جزءا من التعقيد هو بسبب فقدان الضاغط الأميركي لفاعليته، وهذا مرده لأسباب عدة، على رأسها تراجع أولوية العراق لدى الإدارة الحالية لمصلحة ساحات أخرى، وكون هذه الإدارة قد ورثت العراق كتركة ثقيلة واجب التخفيف منها لا الانغماس بها، كما كانت تفعل الإدارة السابقة التي كانت تعتبر التغيير في العراق ورعايته مشروعها، ثم ثانيا أن هذا النفوذ بدأ يواجه بنفوذات إقليمية قوية، بل حتى الأطراف المحلية باتت أكثر انصياعا واستجابة وتعويلا على الإقليم لإدراكها بأنه باق والأميركيون مرتحلون، وثالثا لا يمكن للأميركيين استخدام أساليب الضغط والتحفيز التي يحسنها ولا يتردد عنها لاعبو المنطقة. لذا ففي ظل عوامل التعقيد فإن الولادة لا بد أن تكون متعسرة، هذا إذا لم يكن المولود معاقا!