الزمن والعرب ولبنان والتسوية

TT

اكتمل المشهد بهجوم الرئيس الإيراني ورئيس مجلس الشورى على المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوم الثلاثاء الماضي. فقد اعتبر المسؤولان الإيرانيان الكبيران المحكمة وقرارها المنتظر جزءا من حملات الضغط على الجمهورية الإسلامية، وليس على حزب الله والمقاومة وحسب. وهكذا وقبل ساعات من وصول المسؤولين العرب الكبار (الملك عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس السوري بشار الأسد، وأمير دولة قطر) إلى بيروت ظهرت جبهتان: الجبهة الأميركية - الروسية والأوروبية، وجبهة إيران - حزب الله، وبينهما فرقاء متعددون عرب وإقليميون، يتحركون بين الجبهتين، والبعض منهم تصل آماله إلى حدود إحداث اختراق في عملية التسوية بالمنطقة، والبعض الآخر تقصر آماله عن ذلك، ويسعى للحفاظ على قدر من الاستقرار وسط تقلبات الظروف والمواقف.

ما الذي أوصل الأمور إلى هذه الحدود والانسدادات، وكيف يمكن فهم ما يجري داخل المشهد وعلى حواشيه؟

إن أول ما ينبغي تجنبه الوقوع في أسر الأحداث الطارئة التي يريد كل طرف وضعها في أساس المشهد الراهن. وذلك لأن هذه الأحداث، ومنها حملات حزب الله وإيران على المحكمة، وحملات الآخرين على إيران وحزب الله، المقصود بها التنبيه إلى الأوراق التي يملكها كل منهم في ممارسات منع التسوية أو حرف مسارِها لصالحه.

أما الأمور كلها فقد بدأت في مرحلتها الراهنة قبل ستة أشهر، عندما فشلت جهود جورج ميتشل مبعوث الرئيس الأميركي بعد عام ونيف من الرحلات المكوكية، في إعادة الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولة التفاوض، ومن جهة أخرى بدأ مشهد دولي يتجمع لتشديد الضغوط على إيران وصولا إلى قرار دولي رابع بزيادة العقوبات عليها من أجل برنامجها النووي. وبخلاف السنوات السابقة وصولا إلى الحرب على غزة آخر عام 2008؛ فإن العرب كانوا حاضرين هذه المرة للتصرف. إذ منذ قمة الكويت الاقتصادية، تسارعت المصالحات العربية بمبادرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز، وأعيدت المبادرة العربية للسلام إلى الطاولة، لكن ليس إلى أمد غير محدود. ولذا فعندما عرض الأميركيون أفكارا ومنها التفاوض غير المباشر، اجتمع مجلس وزراء الخارجية العرب بالجامعة بالقاهرة، وأقر تفاوضا غير مباشر مدته أربعة أشهر، فإن لم يحصل تقدم فيه باتجاه إزالة الاحتلال عن الأرض العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية في حدود عام 1967؛ فإن العرب سيوقفون التفاوض، ويتجهون لمجلس الأمن لإنفاذ القرارات الدولية ذات الصِلة. وقبل شهر من الآن، بدأ العرب يقولون - ومن ضمن من قالوا لهم ذلك الرئيس أوباما - إن التقدم المرجو لم يحصل، وإنهم ذاهبون لمجلس الأمن. في حين تحدث الأميركيون عن تقدم قد حصل، وإنهم يطالبون بتحويل التفاوض غير المباشر إلى آخر مباشر؛ لأنهم يخشون إن انقطعت المفاوضات أن تقع الحرب. وهم يذهبون إلى أن إيران لها مصلحة - بسبب الحصار الواقع عليها - في المبادرة إلى تحريك الجبهات أو إحداها؛ في حين أصر العرب على أنه لا مصلحة في الحرب لغير إسرائيل التي لا تريد السلام، وأنه لم يبق علاج «سلمي» بالفعل إلا اللجوء إلى مجلس الأمن. وتحت وطأة المماحكات والهواجس، اقترح الأميركيون (وبعض العرب) تجنبا لقطع التفاوض أن يجري الإعلان من جانب إسرائيل عن القبول بالدولة الفلسطينية في حدود عام 1967، مع إمكانية لتبادل الأراضي (هكذا بشكل عام) فيكون ذلك مادة لامتداد فترة التفاوض، وتحويلها إلى مفاوضات مباشرة لكن ذات أمد محدود أيضا. وقد كانت هذه المقترحات والأفكار موضوع تشاور كثيف بين العرب، إنما لن يوصل إلى قرار بالرفض أو القبول إلا عندما يعود مجلس وزراء الخارجية العرب إلى الاجتماع خلال شهر أو شهر ونصف،على مشارف انقضاء فترة الشهور الأربعة.

وسط هذا المشهد المتكون، بدأت هجمات الأمين العام لحزب الله على المحكمة، لكنه استبق الهجمات بالقول إن المقاومة هي الطرف الرئيسي الذي يحول أو سيحول دون حصول «التسوية الظالمة». وفي الوقتِ نفسه الذي كان فيه الأمين العام لحزب الله، يقرر ذلك، كانت إسرائيل تعلن عن اقتراب نصب القبة الحديدية أو الفولاذية، التي تقي الكيان الصهيوني من الصواريخ القصيرة المدى. وبذلك اقترن تأزم التفاوض وإمكان حصول اختراقات لصالح استمراره؛ بازدياد الحصار على إيران، واكتمال استعدادات الطرفين (إسرائيل وحزب الله) لإنشاب الحرب، وهكذا. في حين ما انحسم مصير التفاوض بعد، فالذي انحسم أن الحرب إن كانت؛ فإن مسرحها القادم على الأرض اللبنانية. وقد «بشرنا» وزير الحرب الإسرائيلي أنه في حال نشوب الحرب؛ فإن المنشآت المدنية اللبنانية لن تكون بمأمن هذه المرة، كأنما كانت بمأمن في المرات الماضية! الذي انحسم أيضا أن الطرفين المتقابلين يملكان «مصلحة» في الحرب: إسرائيل التي تزعم أن الحرب تزيد الكيان أمنا، وتعيد للجيش معنوياته بعدما حدث في حرب عام 2006، وتشجع الإسرائيليين على السير في التسوية دونما مجازفات أمنية. وإيران لأنها ترد على الضغوط المتزايدة عليها، وتتموضع أكثر داخل المشهد، وتحول دون التسوية الظالمة، وتنبه سورية إلى المخاطر التي تتهددها نتيجة الإصغاء «لأوهام الحل العادل»؛ وتمنع تجريم حزب الله وتعيده إلى موقع البطولة في مواجهة العدو الإسرائيلي.

لسنا على أبواب تسوية بالفعل، لكن الحرب لا تنشئ دولة فلسطينية، ولا تحرر الأرض العربية، وستظل مهما بلغت أهوالها تحت سقف التسوية. ولأن العرب ما عادوا خارج الزمن، ولديهم خطة صارت معالمها واضحة؛ فإنهم سارعوا ويسارعون إلى لبنان رجاء الحفاظ على استقراره، ومنعا لاستخدامه ساحة للمرة الواحدة بعد المائة. ويأتي الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى بيروت، ليذكر بأن العرب ما نسوا لبنان ولا تجاهلوه، ولا يقبلون أن يظل مستخدما أرضا وشعبا وقودا للأزمات في أماكن أخرى. فالسعودية أنهت الحرب اللبنانية الداخلية باتفاق الطائف، وأطلقت المبادرة العربية للسلام من بيروت عام 2002، وكانت صاحبة الإسهام الرئيسي في إعادة إعماره بعد الحرب الأهلية، وبعد الحرب الإسرائيلية عليه عام 2006. ويأتي أمير دولة قطر إلى لبنان، ليذكر بأن قطر هي التي رعت عملية التهدئة والتوافق في تسوية الدوحة بعد أحداث مايو (أيار) عام 2008، وهي مستعدة للعمل من أجل استمرار التوافق. ويأتي الرئيس السوري إلى لبنان تتويجا لتحسن العلاقات اللبنانية - السورية، ولأن سائر الأطراف - وبعضها خاطبه علنا - تريده بشيرا بحل داخلي وسط ينقذ الجميع من أنفسهم، ومن استغلالات وتوظيفات محيطهم.

فهل تنجح سورية، وينجح العرب، في وقاية لبنان هذه المرة من العوامل الفتاكة للحرب والدمار؟ يستطيع العرب وقاية لبنان من شرور النزاع الداخلي، بحيث لا يوظف عدم الاستقرار السياسي والأمني في النزاع الجاري في المنطقة. أما الحروب من أجل التسوية أو من أجل منعِها، فتحتاج إلى ما هو أكثر من تبويس اللحى بين الأطراف الداخلية. لقد اجتمع بالجامعة العربية مجلس المبادرة أو لجنته للتشاور دونما اتخاذ قرار. ولا أزال أرى الذهاب إلى مجلس الأمن أفضل من الذهاب إلى التفاوض المباشر دونما ضمانات ذات صدقية؛ «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».