ملحمة نثرية من تاريخ مصر

TT

عمل الأرمني نوبار نوباريان سكرتيرا ومترجما لمحمد علي ثم ابنه إبراهيم باشا، وارتفع إلى مرتبة «رئيس مجلس النظار» في الدولة الخديوية. وترك لمصر وللتاريخ مذكرات تربو على 700 صفحة، تغطي المرحلة ما بين 1842 إلى 1879. أرادها الرجل شهادات يومية في عصر مذهل من تاريخ مصر. فهو سياسي عملي واقعي وليس أديبا أو صحافيا أو روائيا. لا مجال للخيال والزخرفة والبحث عن الكلمات الأكثر جاذبية. لكن من دون أن يدري، ترك لنا نوبار نوباريان ملحمة نثرية من الملاحم، ملحمة لا أبيات فيها ولا مقطوعات ولا أبطالا، بل رجال ضعفاء مرضى يحكمون أقوى الدول ويقودون أقوى الجيوش ويحاربون أقوى الإمبراطوريات. هنا، نرى محمد علي باشا وقد أصيب بالخرف وابنه إبراهيم باشا وقد أصيب بالسل. وكيف يفرح الأب لموت الابن الذي تآمر عليه. وكيف يخاف الحفيد الوريث عباس من حقه ومن أن يقتله إبراهيم باشا فيهرب إلى الحجاز ولا يعود إلى مصر إلا بعد وفاة الحاكم. وكان إبراهيم باشا قد سافر إلى اسطنبول، يرافقه نوبار، حيث اشتد عليه المرض وتحشرجت حنجرته من لفظ الدماء. وطلب من منجم الباب العالي أن يقرأ له طالعه، فراح هذا يضع الخرائط ويتوسل الأبراج، وبعدها نصحه بأن يعود إلى مصر لكي يموت فيها، لأنه باق له 72 يوما. وجاءت المدة مطابقة لحسابات طبيب شهير، رفض إبراهيم باشا الاستعانة به مبكرا، بسبب ارتفاع أجره وبسبب بخل الباشا الأسطوري. وبعد 72 يوما لفظ إبراهيم باشا أنفاسه. وكان محمد علي يتيه في شوارع القاهرة يرافقه المرافقون. ولا يخفي الراوي انبهاره بمحمد علي الذي وزع الأراضي على الفلاحين وطور الزراعة وروض النيل. وفي عهده اكتشف الفرنسي جوميل بذرة القطن التي حملها تاجر سوداني بسيط، فرأى محمد علي في البذرة دخلا جديدا وخروجا من الزراعة البدائية التي كانت تخضع لطمي النيل واستسلام الفلاح. مذهلة ممتعة قراءة «مذكرات نوبار باشا». ومرة أخرى أشعر أنه من واجبي أن أحيي الأستاذ إبراهيم المعلم، صاحب «دار الشروق» لما ساهم به حتى الآن، صحفا ومجلات وكتبا، في ترقي المسار الفكري، رغم الاتجاه السائد في العالم العربي نحو التجارية والانحطاط واللهاث خلف «السوق».

ولا أعرف عدد الذين يقرأون كتبا مثل «مذكرات نوبار باشا». لكنني واثق من أن عدد الذين يكتبون مذكرات مشابهة قليل ضئيل. لا دور للراوي المتواضع سوى المشاهدة والسرد. في حين وضع كريم ثابت، سكرتير فاروق، كتابين يبدو فيهما الملك سكرتيرا عنده. ولا أعرف إن كانت تشويهات ثابت لسيده انتقاما شخصيا أم مطلبا لمجلس الثورة. لكنني سأقرأ نوبار باشا مرة أخرى، وأعود إليه كلما خطر لي أن أعرف عن تاريخ مصر في تلك المرحلة.