المخاوف كعائق.. وكحافز

TT

للأزمة العراقية وجهاها الخارجي والداخلي، لكن الأوضح في المشهد بخوضهم لسجالات غير منتجة هم اللاعبون المحليون. وهذه المراوحة تقف وراءها عوامل عدة؛ ففضلا عن الطموحات سواء الكتلية أو الحزبية أو الشخصية أو خليط منها، فهناك الرغبة الضارية لبضع قيادات وزعامات تسيدت المشهد بأن تظل في صدارته، معتبرة أن هذه فرصتها الأخيرة مع بلوغ عمرها السياسي والبيولوجي حافته، وبالتالي تبدو متمسكة باللحظة ولا تريد مغادرتها كونها تعني مغادرتها هي للمسرح السياسي وإن بعد حين.

لكن لنلتفت لغريزة أخرى مهمة وهي المخاوف، كمعوق لحل وتفكيك الأزمة الحالية، وأعني بالطبع أزمة تشكيل الحكومة. فكل الكتل لا تريد أن تمهد وتلج باب الحل انطلاقا من مخاوف متبادلة، فلجهة الائتلافين الشيعيين اللذين ائتلافا فقط في اللحظات الأخيرة وبعد خلافات عميقة وبقصدية ضمان بقاء المنصب واستجابة للضغط الخارجي، عادت كل عوامل الإعاقة وظهرت بينهما، مستعيدين تاريخا من التخاصم والخلافات التي تكرست وتفاقمت باندماجها مع امتيازات ومواقع ومنافع السلطة، واشتدت الآن بضراوتها بتحولها إلى معركة بقاء، حيث إن جزءا كبيرا من دوافع الإعاقة تأتى من كونها تقاد بغريزة البقاء.

فقوى الائتلاف الوطني لا تريد أن تسلم القياد للمالكي، لأنه بمنحه أربع سنين قادمة سيكمل مسلسل تراجعها ويفاقم أفول نفوذها. لذا فتعود فرصة استعادة مكانتها هي إلى إيجاد معادلة يكون هو مُزاح منها، وتكون المعادلة أفضل لو كان هو وكتلته خارجها. لكن إذا لم يتيسر ذلك فعلى أضعف الفروض باستبداله آخر من كتلته به، يكون محاطا باشتراطات، وثمن منصبه عدد من التنازلات.

وكتلة المالكي الممسكة بالسلطة لها أيضا مخاوفها، فلو دفعت إلى المعارضة فإنها ستخسر وسينكسر منحنى صعودها الذي رفعته، مستثمرة منجز الحكم، من 9 برلمانيين عند بداية دورتها في الحكم إلى 90 عند انتهائها، فإن تحجيمها في المعارضة ربما سيفضي بها إلى التشقق والتآكل كما يتحين لها خصومها المنافسون على نفس القاعدة الشعبية. أما «العراقية» بقيادة علاوي فمخاوفها تتجسم عندما تتماهى مع مخاوف مكون ظن أن فرصته قد سنحت باستعادة السلطة بعد سنين من التهميش، في حين يبقى الكرد هم الأقل خوفا كونهم - وإن اختل تماسكهم في الإقليم - تبقى المصالح القومية توحدهم في بغداد، إلا أنهم يدركون أن وزنهم في البرلمان قد تراجع، وقابله صعود لقوى تتعارض مع طموحاتهم، تقيدها ظرفيا في الإفصاح عن العداء كياسات وضرورات التفاوض.

هذه المخاوف بين الكتل الملزمة بالتشارك تعوق القدرة على إنتاج معادلة توفر أنصبة مقنعة ومطمئنة للجميع، وهذا مما قاد إلى الانسداد الحالي والمرجح له الاستمرار مع ثبات أطرافه. لذا يبقى المخرج، وأظنه الوحيد اللائح، هو دخول العامل الخارجي الضاغط، بما يوفره من ضمانات لبعض الأطراف، ولكونه باستطاعته أن يدرك الحل لنظرته الأوسع أفقا والأشمل للمصلحة مما يراها اللاعبون المحليون الناظرون إلى تحت أقدامهم فقط.

والتدخل الخارجي هنا أيضا يأتي بدافع الخوف، الذي سيحفز الضاغطين الدوليين الأكثر تأثيرا، وهما إيران وأميركا. فإيران يراها البعض ليست مستعجلة في حل الأزمة، بل إن مصلحتها تكمن في إطالتها، إذ إن الولايات المتحدة وهي تنحشر بعامل الزمن مع تسارع العد العكسي للانسحاب بنهاية هذا الشهر، فإنها من الممكن أن تقايض ذلك بإرخاء يدها في ملفات أخرى يراد بها تضييق الخناق على إيران. لذا فللعبة الزمن جاذبيتها التي أجادتها إيران في كل الملفات، لكن عيب الاستمرار والتمادي في هذه الإطالة أن قواعد اللعبة مع تعدد اللاعبين تمنع من أن يحتكر أحد تحريكها ويبقى ممسكا بخيوطها. ومن جهة أخرى مع الإطالة لا يمكن الاستمرار بضبط الفرقاء المحليين وتجميدهم من البحث عن مخارج في تحالفات أخرى يكون الطرف الشيعي فيها هو الأضعف، أو يكون ثمنها تناحرا شيعيا - شيعيا.

الأميركيون يدركون ذلك، وتقودهم أيضا مخاوفهم؛ لذا فهم سيتحولون إلى دور الفعل في الأيام القليلة القادمة، إذ لا يريدون لخصمهم الألد أن يستثمر الإطالة بإيصالها إلى حالة الفراغ الذي يعد لشغله. أما على صعيد الداخل فإنهم يخشون القوى المعادية للتحول الديمقراطي التي تتحين وتترقب انتهاء الانسحاب الأميركي الأكبر، كونه سيختصر الوجود العسكري إلى الثلث، ويصاحبه توقف للعمليات القتالية، إذ إن فراغا حكوميا مع هشاشة أمنية مع تناحر للقوى السياسية ستمثل جميعا البيئة المثلى التي تترقبها قوى العنف لاستعادة المبادأة. لذا، فإنه إذ كان من مخرج بات منتظرا لحل أزمة التشكل الحكومي، فسيأتي بدافع المخاوف لا بداعي المصالح صعبة التوفيق.