مشكلة الطابور بالوطن العربي!

TT

كثيرا ما أتساءل كيف يمكن لمليون مصلٍّ الاصطفاف في سطور منتظمة خلال بضع ثوان فور سماعهم لنداء الإقامة في المسجد الحرام بمكة المكرمة، ولا يستطيع بالمقابل عشرة أشخاص الوقوف في طابور منتظم طواعية في بعض الدوائر الحكومية العربية!

أتذكر عندما افتتحت سلسلة مطاعم الوجبات السريعة «ماكدونالدز» أول فرع لها في دولة الكويت عام 1994، توافد إليه الناس من كل حدب وصوب حتى بلغ عدد الطابور في ذلك اليوم 15 ألف شخص على ضفاف شارع الخليج العربي. ولم أصدق هذا الرقم لولا أنني رأيته بنفسي في الموقع الإلكتروني الرسمي للشركة، ولولا أيضا أنني كنت أحد الواقفين في ذلك الطابور بسيارتي لمدة أربع ساعات متواصلة (كان جنونا طبعا!). وبعد أن اقتربنا من مدخل خدمة السيارات إذ بفوج من السيارات كان قد نفد صبر ركابه - على ما يبدو - فجعلوا يصعدون الأرصفة متخطين آلاف السيارات بكل صفاقة، فنشبت معركة مرورية حامية بين السائقين كالعادة!

لماذا يضيق المرء ذرعا عندما يتجاوزه البعض في الطابور ولا يشعر بالأمر نفسه حينما يفعل الشيء ذاته؟ أرى أن المسألة تعود لأسباب كثيرة، منها عدم تعودنا منذ صغرنا على الوقوف طواعية في طابور منتظم، ومن يتذكر منكم مقصف المدرسة وتكالب الطلبة على شباكه يدرك أن المشكلة تنشأ منذ الصغر. وحتى الصفوف المنتظمة التي كنا نسير بها من طابور الصباح إلى باب الفصل الدراسي، وفي الرحلات الخارجية، إنما كنا نفعلها خوفا من توبيخ المعلم ولم يكن سلوكا ذاتيا منا.

والسبب الآخر هو غياب تطبيق القانون أو اللوائح الداخلية في معظم بلداننا، فيعتاد الفرد على انتهاج هذا السلوك السلبي ثم يقلده أبناؤه من حيث لا يشعر. كما أن الإنسان حينما ينعدم لديه الإحساس بأهمية وقته، فمن الصعب عليه أن يراعي أوقات الآخرين الذين احترموا أنفسهم وغيرهم فالتزموا بدورهم في الطابور.

نحن محظوظون في الوطن العربي بالاختراع الجميل الذي حل مشكلة عدم تقيد البعض بالطابور، وهو الآلة الصغيرة التي تطبع أوراقا فيها أرقام مسلسلة لتحفظ دورك لدى مراجعة الجهات الحكومية والخاصة، فلا يستطيع الفرد التوجه نحو كاونتر الخدمة قبل أن يظهر رقمه على الشاشة. وللأسف الشديد فإن هذه الآلة هي اكتشاف غربي وليس عربيا، رغم أن حاجتنا إليها أكثر منهم، لكن لم تكن هذه المرة «حاجتنا أم الاختراع»!

والسؤال هو: كيف ننظم أنفسنا كأفراد ومنظمات عندما نعاني مع فوضى المراجعين أو العملاء؟ على الصعيد الشخصي، يستطيع الإنسان أن يحول تذمره «الشفهي» من الفوضى إلى شكوى «مكتوبة» يوجهها إلى أعلى شخص في الإدارة أو المنظمة مطالبا بتطبيق النظام أو وضع آلة تنظيم الدور، فتراكم الشكاوى لا بد أن يثمر ولو بعد حين، أما السكوت فلن يغير شيئا يذكر، بل سيزيد معاناتك إن كنت عميلا دائما لهذه الجهة. وإذا لم نجد التزاما بالدور فإن أقل شيء يمكننا فعله هو التعرف على وجوه من سبقونا إلى المكان حتى لا نتجاوزهم، وهذا بالمناسبة من أكثر التصرفات الحضارية التي تعجبني لدى الغربيين، إذ يصعب أن تجد شخصا يتخطاك في الطابور، بل تجده في معظم الأحيان يقدمك عليه لأنه رآك واقفا قبله. وهذا الأمر أحرص على تعليمه لأطفالي عندما لا يجدون أمامهم طابورا.

أما على صعيد المنظمات فيمكنها تنظيم الدور بوضع الآلة التي تحدثنا عنها آنفا، أو وضع حواجز ضيقه يسير فيها شخص واحد أو شخصان متجاوران كحد أقصى، مثلما نشاهد في طوابير المطارات والمسارح والمدن الترفيهية، وليس بالضرورة أن تكون الحواجز حديدية ثقيلة، بل يمكن استخدام أخرى مرنة يتم تحريكها بحسب شدة الازدحام.

وبودي أن أسأل القراء الأعزاء: لماذا يلتزم كثير من العرب في الطابور عندما يسافرون إلى بلدان غربية ولا يفعلون الأمر الحضاري نفسه فور أن تطأ أقدامهم أرض المطار في أوطانهم؟

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]