أردوغان كسب جولة في معركة تأسيس «تركيا جديدة»

TT

ما إن تم الاتفاق على تعيين رئيس أركان جديد حتى تسربت أنباء عن قرب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ما بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. يوم الأحد 31 يوليو (تموز) الماضي عُقد الاجتماع السنوي الحاسم للمجلس العسكري الأعلى في أنقرة والذي ضم وزير الدفاع و15 ضابطا من ذوي أربع نجوم، ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان لاختيار رئيس للأركان وقادة الوحدات التركية. أهمية الاجتماع الذي استمر أربعة أيام أنه جرى وحكومة «حزب العدالة والتنمية» تحاول منذ تسلمها السلطة عام 2002 كسر ظهر المؤسسة العسكرية والمؤسسة القضائية اللتين حكمتا فعليا تركيا منذ عقود وقعت خلالها أربعة انقلابات عسكرية.

منذ سنتين والمؤسسة العسكرية تهيئ لإيصال قائد القوات البرية الجنرال إيشيك كوشانر لمنصب رئيس الأركان خلفا للجنرال الكر باشبوغ، لذلك أوحت للجنرال كوشانر بالبقاء هادئا طوال هذه الفترة كي لا تجد حكومة أردوغان أي مأخذ عليه يدفعها إلى عرقلة وصوله، وكان يهم المؤسسة أيضا أن تختار كبار مساعديه من الضباط.

تدخل حكومة أردوغان مرحلة من الحسم السياسي بينها وبين الجيش، بينها وبين الأحزاب المعارضة، وبينها وبين حزب العمال الكردستاني.

لا يبدو أن أردوغان استطاع تسجيل الانتصار الحاسم الذي كان يتطلع إليه على المؤسسة العسكرية، كما أن الجيش من جهته قدم تنازلات بتخليه عن بعض من اختارهم كقادة وحدات ودرك، إنما حقق انتصارا بإيصال الجنرال كوشانر. إذ كان أردوغان رفض اقتراح الجيش بتعيين الجنرال حسن اغسيز قائدا جديدا للقوات البرية، في محاولة منه لعرقلة ترقية كوشانر وإبقائه في منصبه، لكن عادت رئاسة الجمهورية (عبد الله غل) وأعلنت مساء الاثنين الماضي عن تعيين الجنرال أردال جيلان أوغلو قائدا للقوات البرية.

الجنرال كوشانر في الرابعة والستين، قاد فرقة من الكوماندوس التركي عندما احتلت تركيا قبرص الشمالية عام 1974. علماني متشدد، ويتطلع إليه الكثير من الضباط على أنه أشد عزيمة من سلفه الجنرال باشبوغ للوقوف في وجه محاولات حكومة أردوغان لإضعاف الجيش والتشكيك بمصداقيته. إذ يرى العديد من العسكريين في قضية «المطرقة» حيث اتهمت الحكومة 196 عسكريا بالتخطيط لانقلاب عسكري عام 2003، بأنها قضية نسجتها الحكومة ضد سلطة المؤسسة العسكرية، لا سيما أن عددا من الضباط المتهمين يقاتلون الآن ضد حزب العمال الكردستاني.

ويُعرف كوشانر بأنه من المتشددين في كل القضايا المتعلقة بعلمانية تركيا، كما أنه يعارض أي تقارب مع الأكراد في جنوب شرق تركيا.

وبعد أن أزاح عبء ملء المناصب القيادية العسكرية يريد أردوغان الانصراف إلى تحقيق ما قد يساعد حزبه أكثر على تغيير العقلية العسكرية ووضعها تحت نفوذ الحكومات المدنية ومنع أي علاقة لها أو سيطرة على مؤسسات أساسية في تركيا. ففي 12 سبتمبر (أيلول) سيجري استفتاء لإدخال تعديلات على الدستور بحيث يزيد عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 إلى 17، وعدد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء والمدعين العامين من 7 إلى 22، وفي ديسمبر (كانون الأول) من المتوقع أن تبدأ محاكمة «المتورطين» في قضية «المطرقة». وفي يوليو (تموز) من العام المقبل ستدعو حكومة أردوغان إلى إجراء انتخابات عامة.

إذا لم يحسم أردوغان فوزه في الاستفتاء فإن الصراع بين حزب العدالة والتنمية والجيش سيستمر، لذلك كانت الحكومة تريد أن تقرر بنفسها من يتبوأ المناصب العالية في الجيش، ولهذا فإنها تشجع على التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع المقاتلين الأكراد. إذ على الرغم من تزايد المواجهات العسكرية على الحدود، رحبت الحكومة بدعوة زعيم حزب «السلام والديمقراطية» الموالي للأكراد، صلاح الدين ديميرتاس، إلى وقف لإطلاق النار. إذ أن هجمات مقاتلي حزب العمال الكردستاني أثرت سلبا على الدعم الشعبي لحزب «العدالة والتنمية»، وهذا ما أقلق حكومة أردوغان المتوجهة نحو الاستفتاء.

وحسب مصادر مطلعة، فإن مسؤولين في الحكومة أجروا اتصالات سرية مع الزعيم الكردي عبد الله أوجلان في سجنه، وتردد أنه جرى تقديم وعود له منها استعداد الحكومة لدراسة الطرح الكردي الجديد: «حكم ذاتي ديمقراطي»، كما أنها وافقت على السماح لأوجلان بلقاء عائلته، الأمر الذي يحدث للمرة الأولى منذ سجنه عام 1999. ومقابل كل هذه الخطوات الحكومية أعطى أوجلان الأوامر للسياسيين الأكراد باقتراح يدعو إلى وقف لإطلاق النار. ثم إنه من مصلحة حزب العمال الكردستاني التوصل إلى اتفاق مع حكومة أردوغان قبل أن يتسلم الجنرال كوشانير مهامه في رئاسة الأركان، كي لا يكونوا هم ضحية صراعه مع الحكومة. ثم إن المواجهات بين الحزب والجيش في جنوب شرقي تركيا حيث الكثافة الكردية، دفع بالكثير من المنظمات الإنسانية غير الحكومية إلى الضغط على الطرفين لوقف العمليات العسكرية، وهذا أظهر أن حزب العمال الكردستاني لم يعد يتمتع بدعم غير محدود من قبل المواطنين هناك.

ويمكن لاحقا للحزب الكردي أن يقطف ثمار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تحتاجه حكومة أردوغان لحشد التأييد الشعبي لها في الاستفتاء من أجل تعديل الدستور، خصوصا أن الأحزاب المعارضة، والجسم القضائي العلماني الاتجاه، يستعدون للمواجهة.

كل التطورات الداخلية التركية تشير إلى أن «تركيا جديدة» في طور التأسيس. تركيا المحررة من وصاية النظام العسكري الذي شل التطور الاقتصادي والديمقراطي فيها.

الاتحاد الأوروبي منذ سنوات يدعو تركيا إلى تخفيف قبضة العسكر، وإلى سد الثغرات في الدستور. وإذا كان الكثير من الأتراك، علمانيين ومتدينين، يقفون مع هذا التوجه، إلا أنهم غير واثقين من تطلعات «حزب العدالة والتنمية»، ويرون أن حكما متسلطا سيحل مكان حكم عسكري، إذ أن الحكومة التركية تتعرض لانتقادات من كثيرين، أصيبوا بخيبة أمل من «حزب العدالة والتنمية»، فهي حدت من الحرية الصحافية، وأغلقت بأمر قضائي الكثير من «المدونات» الخاصة، بالإضافة إلى الكثير من المواقع على الإنترنت، كما أنها، تأتي بأحكام قضائية للتنصت وتسجيل مكالمات كل المناوئين للحزب الحاكم.

في تركيزه على الداخل وعلى تقوية قبضة حزبه على الدولة التركية، لن يجد أردوغان الوقت الكافي للتركيز على الأدوار الخارجية، فهو استرجع السفن التركية التي حجزتها إسرائيل، ولم يقطع علاقاته بها، ثم إن قيادة الجيش عادت وأبلغته بأنها في حاجة إلى تقوية علاقاتها الأمنية مع واشنطن، أما الوساطة بين سورية وإسرائيل فإن واشنطن منهمكة بإيجاد طريقة لإحياء المفاوضات المباشرة على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي. وفرنسا عينت من قبلها مسؤولا لتولي الملف الإسرائيلي - السوري. وبهذا فإن كل الأطراف أعطت الوقت لأردوغان لينتهي من معاركه الداخلية التي ستشتعل أكثر في الأسابيع المقبلة، لأنها ستحدد مستقبل تركيا الجديدة، وبالذات مستقبل «حزب العدالة والتنمية» وعما إذا كان سيحل في تحكمه بكل مقاليد البلاد محل قوة المؤسسة العسكرية، أو أن المعارضة العلمانية ستهزمه!