رمضان.. وصل!

TT

شهر فضيل وكريم ومبارك حل علينا. كل عام والجميع بخير ورضا وسعادة وأمان. إنها الفرصة السنوية الفريدة والمكثفة لإعادة التقييم الشامل لتزكية النفس ومراجعتها، وتقييم العلاقات بين العبد وربه، وبين العبد والناس. ولكن رمضان بات «صعبا» أن تمارس فيه هذه المجاهدات الممتعة مع الناس وسط «الصخب» و«الضجيج» المصطنع والاستهلاكي.. لقد تحول إلى بازار هائل ومخيف لعرض السلع والترويج للعروض التلفزيونية. قلت وخفتت أصوات المشايخ «الهادية» التي تنادي بالعمل الصالح بشكل هادئ وورع، أصوات مثل علي الطنطاوي والشعراوي والبوطي والباقوري التي كانت كلها تنشر الاعتدال في هذه الأيام من الشهر الفضيل. كانت المساجد تكتظ بالمصلين من دون ادعاء أو مظاهر، فلم تكن الحاجة إلى عشرات السماعات وأجهزة تكبير الصوت، ولا ظاهرة الخطب بين ركعات الصلوات وإزعاج الآخرين.. كان الخشوع والسكينة هما سيدي الموقف ودرة المكان.

كان لرمضان بهجة قدوم تخرج من القلب فيحتفل بها في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وخصوصا العالم العربي فيه، ففي مصر تشيد علامات وأستار المحال بالزينة والفوانيس واللافتات المليئة بالتبريك والتهليل والفرح والصلاة على النبي، وفي الخليج العربي كان الأطفال يلعبون ويمرحون بـ«القرقيعان»، والنسوة بـ«القريش»، كل ذلك فرحة بقدوم الشهر الفضيل، وفي مكة والمدينة وجدة كان الأطفال الكبار يلعبون ويمرحون ويقدمون الأطعمة الخاصة ويرددون الأهازيج والأناشيد المتعلقة بقدوم الشهر العظيم.

الشهر الفضيل كان فرصة لتجمع الأهالي والأصدقاء والتواصل الحقيقي، ولكن ظروف الشهر التي استحدثت وانشغالاته المصطنعة جعلت البعد بين الناس مسألة واضحة وصريحة. رمضان فرصة حقيقية للمراجعة الكبرى مع النفس.. إنها الميزانية النفسية التي يستطيع المرء العاقل من خلالها أن يرى حجم أصوله وخسائره وفرص أرباحه. إنها المجاهدة والمراقبة والترقي في أجمل صورها ولكنها تزداد صعوبة وتزداد مشقة في وسط عواصف التشتت القادم من كل طرف. فمثلا ترى خطيبا يصعد المنبر ليتحدث عن أمور غير ذات أهمية، فيشغل ساعات العباد بعبث الكلام وصغائر الأمور، متناسيا أن الهدف الأسمى من خلق العباد هو العبادة نفسها «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون»، لا ليحلل ويقيم الآخرين عن عقيدتهم وسلامة عقيدتهم والخلل الموجود في عقيدتهم، وكأنه بذلك يملك جهازا إشعاعيا له القدرة على الاطلاع على دواخل قلوب الناس ليدرك وحده مدى قوة عقائدهم! وهي مسألة لا يمكن أن يعلمها إلا الحق عز وجل. وحقيقة، إن الكلمة الوحيدة المذكورة في القرآن الكريم بهذا الشأن هي الإيمان، فكلمة العقيدة لم ترد لا في قرآن ولا سنة ولا قال بها الصحابة ولا الأئمة الأربعة قط. الإيمان هو الأساس وليست العقيدة، وخصوصا من يدعي أنه قادر على معرفة من يملك العقيدة السليمة أو العقيدة المختلة، وهذا لعمري ادعاء عظيم على الحق عز وجل! رمضان 30 يوما من الهدايا والعطايا والمنح الربانية، مزيج هائل من المغفرة والرحمة والعتق من النار، وليال قدرية تتجلى فيها الأفضال الإلهية العظيمة على عباده. قليل من التنظيم وكثير من تخفيض معدلات الضوضاء باسم الاستهلاك والضجيج وباسم الدين، سيمكنان العباد من التركيز والخشوع والاستفادة من هذه الأيام الجليلة حتى يصبح الجهاد مع النفس في رمضان الكريم عبادة حقة ترقى بالعبد وتقربه من ربه، بدلا من المعارك التي يخوضها يوميا، لمجرد التذكر بأنه لا يزال في رمضان شهر العبادة.

كل عام والجميع بألف خير، تقبل الله منكم الأعمال الصالحة.

[email protected]