أصحاب اللحوم المسمومة

TT

أعترف بأن لدى حساسية مفرطة تجاه بعض من يسمون بـ(الدعاة)، وكأنهم نزلوا من السماء ليكونوا أوصياء على عباد الله.

المشكلة أن بعضهم درسوا الطب وأصبحوا أطباء، وبعضهم درسوا الهندسة وأصبحوا مهندسين، وكان من المفترض أن يمارسوا علميا ما تعلموه ليساهموا ولو قليلا في خدمة المجتمع، ولكنهم مع الأسف ضربوا عرض الحائط بكل ما تعلموه ليتشبثوا بـ(الميكروفونات) تحت الأضواء الكاشفة لعدسات التصوير في الاستوديوهات، ولا هم للواحد منهم إلا أن يستميل أكثر عدد ممكن من المعجبين!!

أصبحت القضية عندهم مجرد (بزنس) لا أكثر ولا أقل، وإنني لا أظلم ولا أبالغ إذا قلت إن حمى المنافسة والغيرة تأكل صدر كل واحد منهم ضد الآخر، وهو يتمنى من أعماق قلبه لو أنه أغمض عينه وفتحها وإذا منافسه الآخر مقذوف به خلف الشمس، ولا أدري بعدها هل سيترحم على روحه أم يقول: الحمد لله (جات منك يا جامع).

وها هي المجلة الاقتصادية (فوربز) تلقي الضوء على الدخل الصافي سنويا لهؤلاء الجهابذة، وإذا به يتراوح بين الملايين ومئات الألوف من الدولارات، إلى درجة أنني بعد أن قرأت وتأكدت من تلك الأرقام المهولة التي يجنونها، ضعفت نفسي إلى أبعد الحدود، بل إنها هفّتني إلى أن أتحول إلى داعية بدلا من (نحلة القلب) التي أرفل بها، ولم لا؟!، فلدي ولله الحمد قدرة لا بأس بها من إتقان اللعب بعواطف الجماهير، والضرب على وتر الترغيب والترهيب ويا له من وتر.

هل تصدقون أن أسعار هؤلاء قد ارتفعت في (بورصة) المحاضرات؟!، وأصبحت أسعارهم من دون مبالغة تحسب بعشرات الآلاف من الريالات وذلك في المحاضرة الواحدة التي لا تزيد مدتها على ساعتين فقط، وكل ما يعطيه للناس هو مجرد كلام في كلام في كلام يطير في الهواء، بل إن بعضهم يخفي رأيه أمام العامة، فيقول في منبر دروسه رأيا ثم يناقضه في مجلسه الخاص، ويقول للحاضرين: إن ما قلته خاص (بالعامة)، والصواب هو كذا وكذا، وهذا معروف وموثق ومحفوظ بل ومسجل بالصوت والصورة.

والمضحك المحزن أن أحد الصحافيين الخبثاء فضح أحد هؤلاء الدعاة عندما قرأ مسودة محاضرته قبل أن يلقيها ويقول بالحرف الواحد: كنت أقرأ أمامي وقفات كتبها ذلك الشيخ الداعية، فبعد كل عدة أسطر وجدته يكتب ملاحظة - هنا يجب أن أرفع صوتي -، أو - هنا يجب أن أبتسم -، أو - هنا يجب أن أبكي - أي إن المسألة كلها تمثيل وضحك على الذقون.

ويمضي ذلك الصحافي قائلا: إن ذلك الداعية بعد أن انتهى من محاضرته تلك أتيت له قائلا: أراك يا فضيلة الشيخ قد ذرفت هذه الليلة دموعا كثيرة، وتفاجأت برده وكأنه يلقمني حجرا عندما أجابني من دون أي خجل ومن دون أن يرف له رمش قائلا لي: نعم إنها دموع نحشد بها الجماهير.

إذن أرجوكم أن تعذروني عندما قلت في أول المقال: إن لدي حساسية مفرطة تجاه هذه النماذج التي اتخذت من الدعوة وسيلة ناجحة لكسب أكبر قدر ممكن من الأموال، وذلك على حساب عواطف البسطاء الذين يتأثرون بشكل وكلام كل متشدق يتدثر بلباس الدين.

ألم يقل هؤلاء الدعاة بكل صراحة: إن لحمنا مسموم؟!

ويا له من لحم، نعم يا له من لحم.

وعّ يا كبدي

[email protected]