كانت بيت الحكمة

TT

يقول اليعقوبي في وصف بغداد، يوم كانت: «وإنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا وسرة الأرض، وذكرت بغداد لأنها وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبرا وعمارة، وكثرة مياه، وصحة هواء». ثم يتحول إلى خصائل أهلها: «فليس عالم أعلم من عالمهم، ولا أروى من راويتهم، ولا أجدل من متكلمهم، ولا أعرب من نحويهم، ولا أصح من قرائهم، ولا أمهر من متطببهم، ولا أروع من زاهدهم، ولا أكتب من كاتبهم، ولا أفقه من حكامهم، ولا أخطب من خطيبهم، ولا أشعر من شاعرهم». لكنه إذ ينتقل إلى النوع المقابل يسارع إلى الاستدراك: «ولا أفتك من ماجنهم».

جاء اليعقوبي «دار السلام» بعد قرن من وفاة أبو جعفر المنصور، الذي أراد بناء مدينة لا مثيل لها وأن تكون «أعمر مدينة في الأرض» لكن اسمها القديم، بغداد، طغى على الاسم الجديد، ذي الهيبة العالمية والطابع الكوني، الذي صارت حقا إليه.

صارت بغداد ملتقى الحضارات، وجاءها الناس والأعراق من كل مكان، وكانت «جامعة» الأرض في العلوم والمحاضرات والمناظرات، وأقام الوراقون سوقهم خارج المدينة التي أصبحت «بيت الحكمة». يقول جوناثان ليونز (الدار العربية للعلوم) إنه بعد قيام بغداد عاصمة للمسلمين تغيرت هيكلية المجتمع العربي التقليدي لصالح ثقافة إسلامية جديدة، كان فيها الفرد وأسرته، وليس العشيرة، هم اللاعبين الاجتماعيين والسياسيين الأساسيين، قبل قرون من قيام نيويورك، صارت بغداد مصهر الأعراق والثقافات والشعوب.

ألا يبدو منظر بغداد محزنا اليوم؟ العودة إلى نظام العشائر في بدايات الألف الثالثة؟ ألا تبدو محزنة، هذه المدينة التي يهرب أهلها باستمرار ولم يعد يجرؤ الغرباء على المرور فيها؟ أحزنني أن أقرأ أن بغداد مبتهجة بإعادة حركة الطيران، وأحزنكم ألف عام أن ثروة بغداد من الكتب بيعت على الأرصفة. وأحزن أهل الأرض أن المدينة التي كان توقيتها هو توقيت العالم، عاجزة عن الاتفاق على حكومة.

كان صدام حسين يدعو إلى انتخابات يفوز بها بما لم يفز به الأنبياء والأولياء وحكماء الأرض: الإجماع. أما نوري المالكي فيدعو إلى انتخابات ديمقراطية يفوز بها من يفوز، ويبقى له وحده قرار تجاهلها. أليس هو «أفضل المرشحين» للحكومة العتيدة أيضا، بصرف النظر عمن اقترع وعمن اختار وعمن أراد للعراق بداية طريق نحو عودة الوحدة؟

لا. ليس هذا بكاء آخر، فقد استنفد الأندلس دموع جميع الأجيال الماضية والآتية. لكن هذا تذكير بأن ثمة أندلسات أخرى ولو بقيت في ظل حكم عربي، أو يفترض أنه عربي. فمن بغداد تغير أيضا مفهوم العروبة، ومفهوم الدولة، ومفهوم القانون. وفي الماضي لم يكن يحق للناس أن تختار، أما الآن فهي تختار.. ويضرب الخيار بالجدار.