هل نريد نجاحا للمفاوضات المباشرة؟

TT

أخيرا استقرت كل الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية - الإسرائيلية على بدء المفاوضات المباشرة بين السلطة الوطنية الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية للوصول إلى حل نهائي للصراع بين الطرفين تحت إشراف الولايات المتحدة الأميركية. وعلى سبيل إعطاء دفعة قوية للمفاوضات سوف يجري نوع من الاحتفال في العاصمة الأميركية تحضره أطراف عدة معنية بالمفاوضات مثل أطراف اللجنة الرباعية والدول العربية الموقعة على معاهدات سلام مع إسرائيل.

وللحق فإن أسباب التشاؤم تجاه نجاح هذه المفاوضات لها ما يبررها، وقد سبق عرضها في هذا المكان مرات عديدة في سياقات مختلفة، ولكن السؤال المطروح على الدول العربية - خاصة المعتدلة والراغبة في الاستقرار في المنطقة والتوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية - هو هل تريد حقا الوصل إلى حل لهذا الصراع الذي طال كثيرا ودفعت شعوبنا العربية ثمنا فادحا له من الحروب والانقسامات وظهور أشكال مختلفة من التطرف والفاشية والديكتاتورية تحت أردية استرداد الحقوق العربية فإذا بها تضيع من بين أيدينا الواحدة بعد الأخرى؟. وفي تصوري أن الإجابة ينبغي أن تكون «نعم»، عالما في نفس الوقت أن التوصل إلى حل «يقترب» من المستحيل؛ ولكن «المستحيل» هو عنوان كل الصراعات التاريخية، وإلا ما كانت هذه الصراعات «تاريخية» من الأصل لأنها تحتوي على تناقضات حادة ومعقدة تعقيدا يجعلها تغذي نفسها وتنقلها من جيل إلى آخر.

ولكن «نعم» هذه لا تعني المسايرة، فلا يستطيع أحد أن يرفض مبادرة الرئيس الأميركي، خاصة لو كان رجلا يبدو حتى الآن وكأنه أفضل الرؤساء الأميركيين الذين تعاملنا معهم رغم أن إنجازاته حتى الآن لا تزيد على الاهتمام والرغبة في الحل على عكس سابقه الذي احتاج سبع سنوات حتى يقتنع بالأهمية المركزية للصراع في الشرق الأوسط والعلاقة بين العالم الإسلامي والغرب. ولكن القبول وبعد ذلك يترك أوباما لكي يذهب مع ربه لحل الصراع فأظنه لن يكون كافيا إلا لإضافة نكسة إضافية لمسيرة عملية سلام كان انتكاسها وتوقفها يعني دائما السير في طريق الحرب. ونحن نعرف جميعا أن فشل مفاوضات كامب دافيد في يوليو (تموز) 2000 قاد إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو حرب الأربعة أعوام؛ وعندما لم تقد عملية أنابوليس إلى شيء جاءت حرب غزة في نهاية عام 2008؛ وبين هذا وذاك تغذت حروب وأزمات على الصراع من أول حرب حزب الله مع إسرائيل وحتى الأزمة النووية الإيرانية المنذرة دائما بحرب وصراع دام.

نحن إذن أمام مأزق من نوع أو آخر، فنحن نعرف أن الدخول في المفاوضات يحدث في أسوأ الأوقات، ويجري تحت إشراف إدارة أميركية تراجعت عن مواقفها الأولى في ضرورة وقف الاستيطان، وبدء المفاوضات من حيث انتهت، وفي وجود إدارة إسرائيلية لم يوجد من قبل ما هو أكثر تشددا منها، وفي ظل انقسام فلسطيني غير مسبوق. كل ذلك يبرر أكثر ضرورة تدخل عربي فعال وليكن من خلال مجموعة فاعلة تضم مصر والسعودية والأردن والمغرب تعمل على نجاح هذه المفاوضات من خلال سلسلة من الإجراءات التي تعطي الرئيس الأميركي كما كافيا من حبات الشجاعة حتى يواجه الضغوط الصهيونية عليه؛ كما تعطي حافزا كافيا لرئيس الوزراء الإسرائيلي لكي يغير من ائتلافه الحاكم ليكون هناك ائتلاف آخر أكثر مرونة. وربما يحتاج الجميع هنا مراجعة المفاوضات المصرية - الإسرائيلية التي جرت بين الرئيس السادات ومناحيم بيجين تحت إشراف الرئيس الأميركي جيمي كارتر.

ونقطة الانطلاق العربية سوف تكون «المبادرة العربية» حيث الموقف العربي الواضح في ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة مقابل سلامها مع الدول العربية. والرأي هنا أن الشق الأول من المبادرة واضح تماما، بل إن تقدما ملموسا جرى بشأنه في المفاوضات التي جرت بين أولمرت وأبو مازن وصاغته الإدارة الأميركية - كونداليسا رايس وزيرة الخارجية - بالفعل في منتصف أغسطس (آب) 2008. ولكن الشق الثاني حان وقت ظهوره بقوة، والإعلان عنه ليس تطبيعا «بالمجان» كما يقال، ولكن الصمت عنه هو الذي يعني استمرار الاحتلال والأزمات والحروب أيضا بالمجان، ودون أن نكون على يقين كامل أننا بذلنا أقصى الجهد لتجنب الحرب في المنطقة. وجهة النظر هذه يجب أن تنقل إلى العالم كله، حيث يجري فيها تحديد موقع إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط حال وقوع السلام وانسحابها من الأراضي العربية المحتلة ليس فقط بتبادل السفراء وإنما أيضا كما جاء في المبادرة ضمن إطار علاقات أمنية واقتصادية وسياسية تضم كل دول المنطقة.

وضوح وجهة النظر العربية وإعلانها، وإيصالها للداخل الإسرائيلي واجبة إذا ما كنا نريد أن نصل إلى حل وليس إلى حرب أخرى. فالمسألة هي من الناحية التفاوضية البحتة تعني وضع خيار آخر أمام إسرائيل، وتعطي للمفاوض الفلسطيني أوراقا عربية وهو الذي لم يعد لديه أوراق فلسطينية يطرحها سوى التهديد بالانتحار أو الانتقال من حل الدولتين إلى حل الدولة الواحدة. الخيار العربي الفلسطيني بالعلاقات الطبيعية يعطي أملا في مستقبل آخر؛ إذا لم يفلح مع حكومة نتنياهو فإنه سوف يعزلها أمام العالم ويضعها في مأزق أمام الإسرائيليين ويعطي نفحة أمل لجماعات السلام التي خفتت منذ العمليات الانتحارية الفلسطينية.

ولكن الجهد العربي ليس فقط إعلانا عن النيات أو اتصالا بمن يهمه الأمر لإعلامه بالنيات الطيبة، ولكن جهد سياسي ودبلوماسي لكي نهيئ الأجواء لنجاح المفاوضات من خلال المشاركة في ضبط العناصر التي تريد إفسادها. ومن المؤكد أن أول الجهد ينبغي أن يكون في اتجاه حماس في غزة لأنها تستطيع، وقد فعلت ذلك من قبل، إفساد كل عمليات السلام من خلال عمليات انتحارية أو استشهادية لكي تستدعي ردودا إسرائيلية عدوانية بشعة فتنتهي المفاوضات. وببساطة فإن المطلوب الآن هو استمرار فترة التهدئة الراهنة حتى تعطى المفاوضات فرصة، وليكن لمدة عام بعدها إذا وصلت المفاوضات إلى نتيجة فإن الحكم فيها يكون في استفتاء تحت الرقابة الدولية للشعب الفلسطيني؛ أما إذا لم تصل فإن كل الخيارات سوف تكون مفتوحة مرة أخرى.

مثل ذلك، أو نوع منه، ينبغي أن يحدث مع سورية أولا لأن ما نتحدث عنه ليس سلاما فلسطينيا إسرائيليا فقط، ولكن سلام عربي - إسرائيلي تنسحب فيه الأخيرة من الأراضي «العربية» المحتلة؛ وثانيا لأن سورية إذا لم تكن داخل عملية السلام، فإنه لن تكون هناك عملية سلام على الإطلاق. كيف يحدث ذلك؟ الأمر يحتاج إلى تفكير وتدبير، ولكن هناك أبواب في القاهرة وفي أنقره يمكنها أن تفعل الكثير. المهم ألا نترك الفلسطينيين وحدهم، وألا نترك فرصة أخرى تضيع!