على مدى الأفق

TT

جلست أراقب كيف تلقى هذا المخلوق، المعروف أيضا «بالمواطن العربي»، حدثا تاريخيا مذهلا، هو أول انسحاب أميركي من العراق. في الجزء الأكبر، لم ينتبه أحد إلى الأمر. في الجزء الباقي، انتبهوا ولم يلقوا بالا. في العموم، تبلد هذا الكائن المفتوح الجراح والأحزان والصراعات والمخاوف والفقر والتخلف والحروب واليأس والذل والقهر والعذاب والأمية والسجون السياسية والظلم والدوس على الرقاب حتى القبور، تبلد ولم يهمه جاء الأميركيون أم ذهبوا!

هذا الذي وضع مليون شهيد في الجزائر وطرد الإنجليز من عدن وانتصر على الفرنسيين في تونس وأنهى غوردن في السودان وحول جراح السويس إلى انتصار عالمي، هذا المخلوق الذليل والحزين يقرأ الصحف اليوم ولا ينتبه إلى عناوينها. فما همّ اليمني ذهب الأميركيون من العراق أم بقوا فيه، فيما بلاده تنفجر في الجنوب وفي الجبال، باسم الأخوة وباسم الوحدة، وماذا بقي للبناني من مشاعر كي يتضامن بها مع خراب بغداد وخراب البصرة وخراب كركوك.

كلما قرأت صحف الصباح، اضطراريا ولأسباب مهنية ومن دون أي دافع طبيعي، لا أعود أفكر في نفسي وإنما في القارئ الذي يدفع كل يوم قرشا ليقرأ نعي مستقبله وحال أمته، وكيف أن الحزن تكدس حتى لم يعد يلقى فرحا في خبر كانسحاب الأميركيين. فأي أمل في امتداد هذا الخراب، وأي عزاء في كل هذا الموت، وأي بهجة في ظل يائس مطبق، وقح، شرس، وقليل الخلق؟ أتخيل القارئ الفرنسي وهو يقرأ صحيفته، وهمه الأكبر رفع سن التقاعد. والقارئ النمساوي، وهمه الأول موازنة صيانة الحدائق. والمواطن الياباني وهمه أيام الإجازات. فيما هذا المواطن، من المحيط إلى الخليج، ومن الخليج إلى المحيط، لا وعد إلا وعد الخراب، ولا أمل إلا الخوف والرعب والحديث عن الفتنة وكأنه حديث عن قهوة الصباح.

غريب، كم هو عام هذا البلاء. كم هو لزج. كم هو قيح وصديد. يبدأ الأميركيون بالخروج بعد احتلال قميء أحمق متعجرف وغبي، ولا ننتبه إلى ذلك، فما معنى ظهور زهرة في هذا الحريق وكل هذا الرماد وكل هذا الحريق الآتي والرماد الموعود؟