مفاوضات سد الفراغ ورفع العتب

TT

«الاضطرار لا ينتج صفقة جيدة» (بنجامين فرانكلين)

المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية المباشرة التي انطلقت أخيرا تحت رعاية أميركية... في صالحها نقاط كثيرة، وفي غير صالحها نقاط أكثر.

في صالحها أنها، في الظروف التي تجري فيها، تبقى أقل خطرا من أي بديل آخر. ففي ظل احتكار واشنطن – المنحازة لإسرائيل تقليديا – الزعامة العالمية وملف الشرق الأوسط، فإن هامش المناورة عند الفلسطينيين محدود، بل محدود جدا. وعليه، يظل التحاور وإبداء النية الحسنة أقل ضررا من مغامرات غير محمودة العواقب.

ثم إن في واشنطن اليوم إدارة معتدلة منفتحة بعيدة عن آيديولوجية الإدارة السابقة القائمة على «سيادة» العرق الأبيض، و«الأصولية المسيحية الصهيونية»، وذهنية الفرض والإملاء، والعداء الفطري والممنهج لأي ثقافة غير غربية، بما فيها الإسلام. وبالتالي، تبدو الإدارة الحالية، على الرغم من شعاراتها الفارغة حتى اللحظة، مستعدة لفهم العالم والاعتراف بأخطاء الماضي. وهذا سبب كافٍ لتقبل فكرة الحوار معها وفي ظلها... وتأجيل الهواجس والشكوك فيها من دون إلغائها.

أيضا، لا جدال في أن ميزان القوى بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي مختل حاليا، وربما سيظل مختلا في المستقبل المنظور طالما استمرت الأحادية الأميركية. وهذا، يعني، أن سحب مبررات التصعيد الإسرائيلي مع الحرص – ما أمكن – على إبقاء قضية الحقوق الفلسطينية حية، وتجنب الانزلاق إلى فتنة فلسطينية داخلية، تريدها إسرائيل اليوم قبل الغد، سيكون خيارا فلسطينيا عاقلا.

حقيقة أخرى، تضاف إلى ما سبق، هو الوضع الإقليمي السيئ. فمنطقة المشرق العربي تجد نفسها بين «فكّي كماشة» هما تطرف إسرائيلي يسعى بكل الوسائل لزرع الانقسام والفوضى وتزكية خيار التطرف، وطموح إيراني يريد تحقيق غاياته الاستراتيجية المناقضة – ربما – ولكن عبر التكتيك ذاته، أي زرع الانقسام والفوضى وتزكية خيار التطرف. وهذا، وسط عجز عربي مخيف فاقمته تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية.

في المقابل، ثمة نقاط كثيرة لا تسمح بالتفاؤل.

فعلى الصعيد الأميركي، يُستبعد أن يتمكن الرئيس باراك أوباما من تحقيق تعهداته، والدفاع عن أي ضمانات قد يعطيها للمتفاوضين إذا خسر حزبه الانتخابات النصفية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. والمؤشرات الأخيرة في هذا الشأن مقلقة، إذ إنها تدل على تقدّم الجمهوريين، بقيادة اليمين المحافظ، على الديمقراطيين بنحو عشر نقاط مئوية في استطلاعات الرأي. ثم إن تاريخ الدبلوماسية الأميركية، كما سبقت الإشارة، لم تكن في يوم من الأيام وسيطا محايدا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وهذا الواقع المؤسف يدركه اليمين الإسرائيلي جيدا، ويعرف تماما كيف يستغله داخل المؤسسات السياسية والإعلامية والمالية الأميركية.

وعلى الصعيد الإسرائيلي، هناك تراكم لعوامل القوة عند معسكر اليمين الإسرائيلي المتشدد... مقابل انهيار تدريجي مستمر خلال العقود الأخيرة لخصومه السياسيين من الوسط واليسار (الصهيوني وغير الصهيوني). وجاء تحوّل قطاع كبير من الفلسطينيين نحو البديل الديني المسلح ليخدم غايات إسرائيل بدلا من إحراجها. فتصوير إسرائيل صراعها مع الفلسطينيين على أنه مقاومة لنشوء «دولة أصولية إسلامية مسلحة»، أسهل لها وأربح من تصويره على أنه ضد مشروع «دولة ديمقراطية مدنية يتساوى مواطنوها من حيث الحقوق والواجبات». والواضح أن دأب اليمين الإسرائيلي على الرهان على الحرب الأهلية الفلسطينية وتقسيم ما هو مقسّم... مستمر وسيستمر.

أما على الصعيد الفلسطيني، فنحن أمام مشهد مؤسف وخيار صعب بين جماعة خسرت – وخُسِّرت – قدرا كبيرا من صدقيتها، لكنها لا تزال تحتفظ ببعض المرونة والرؤية السياسية، وجماعة مناوئة ساعدها التعنت الإسرائيلي على كسب صدقية يجب الاعتراف بها... لكنها تفتقر إلى مشروع سياسي قابل للحوار وللحياة. ولقد فرّطت القيادة الفلسطينية أيام سيطرة «فتح» في الكثير من مكانتها ونقائها في نظر المواطن، سواء لنوباتها التفاوضية سيئة التخطيط والتوقيت... أو للفساد الذي اتسمت به سير بعض قادتها قبل «صفقة أوسلو» وبعدها. لكن حماس التي كسبت الانتخابات التشريعية نتيجة انقسامات «فتح» وسخط الشارع - لا لأنها تحمل مبايعة شعبية ساحقة - لم تقدّم بديلا أفضل، بل انزلقت إلى «الحرب الأهلية» التي كانت «رأس المحرمات» عند مؤسسها الشيخ أحمد ياسين. ومن ثم رهنت القضية مجددا بصراع الطموحات الإقليمية. واليوم، بدلا من أن يذهب المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات مسلحا بالوحدة الفلسطينية، التي هي أقوى رصيد استراتيجي للفلسطينيين، فإنه يذهب مكتوف اليدين عاجزا عن المناورة.