الجماعة المحصورة

TT

أثار مسلسل «الجماعة»، الذي عرض على بعض القنوات الفضائية المصرية، جدلا داخل وخارج مصر، فالجماعة المحظورة منذ أكثر من ستين عاما في بعض البلدان العربية لا تزال مستمرة، بل ونشطة اجتماعيا وسياسيا على الرغم من حصارها واستهداف أفرادها، ولم تفلح عشرات الوزارات ولا آلاف الاعتقالات في وأد الجماعة، أو تقليص نشاطها. ولعل المسلسل المعروض قد فتح أمام الرأي العام بشكل غير مسبوق مناقشة تاريخ الجماعة وتأثيرها في المجتمع المصري. البعض رأى في المسلسل تشويها لتاريخ الجماعة من قبل السلطات الرسمية التي سمحت بعرضه، وهؤلاء هم بالطبع من المتعاطفين معها، والبعض الآخر اعتبر أن المسلسل قد أسهم في تقديم جماعة «الإخوان» في كل بيت مصري - وعربي - من خلال الشاشة الصغيرة.

لا يهمنا هنا مناقشة البعد الفني أو التاريخي للمسلسل فذلك واجب النقاد، ولكن ما يجب أن يشغل تفكير أولئك المهتمين بشؤون السياسة في المنطقة هو السؤال التالي: كيف، ولماذا تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من البقاء نشطة طوال العقود الماضية؟

يمكن حصر الإجابات عن هذا السؤال في إطارين عامين: الأول منهما يقول بأن حيوية أفكار ومنهج الجماعة هما سر استمرار الجماعة في الحياة، وأنه بسبب من ذلك المنهج تمكنت الجماعة من تجاوز خصومها من الإسلاميين الخارجين على منهج الجماعة - مثل جماعة الجهاد و«القاعدة» - أو الحكومات والأنظمة التي تناصب «الإخوان» العداء. أما الرأي الثاني فيدور حول مسألة أن تنظيم «الإخوان» كان ولا يزال سريا، وأنه وعبر استخدام شعار «الإسلام» تمكن من نشر رسالته والتأثير في المجتمعات التي لم تتمكن منها الحداثة المدنية في العالم الإسلامي. وأصحاب هذا الرأي يؤكدون الأصل البراغماتي (السياسي) الذي ولد مع الجماعة، ولهذا فإنها تمكنت من الحياة طوال العقود الماضية لأنها سمحت للآخرين باستخدامها سياسيا لأجل ضمان البقاء في المشهد، وهو ما جعل «الإخوان» قادرين على التحالف سرا حتى مع خصومهم، والتعايش - نسبيا - مع كافة الأنظمة والحكومات. أيا تكن الإجابة، فإن هناك شبه إجماع على أن الجماعة هي أبرز جماعة سياسية/ دينية من حيث الشكل والتنظيم في المنطقة، وأن شعارها «التربية أولا» قد مكنها من تعليق نشاطها السياسي في أوقات الأزمات، والتركيز على تربية جيل جديد من «الإخوان» المبايعين، ولهذا فإن أجيال «الإخوان» اليوم تتجاوز أي حزب سياسي آخر في المنطقة كالناصريين والبعثيين.

في كتابه «جماعة الإخوان المسلمين» (1969) يشير ريتشارد ميتشل إلى أن الجماعة قائمة على مبدأين يحملان في بذرتهيما التناقض، فمن جهة تؤمن الجماعة بالانفتاح على الحداثة المادية الغربية بغية تمكين المسلمين من الوسائل المادية المعاصرة، وفي الوقت ذاته تؤمن بأن رسالتها الخالدة هي تربية المجتمع المسلم القادر على بناء الدولة المسلمة، ولهذا فإنها مؤمنة بضرورة معارضة الأفكار الغربية وتقديم بدائل متوافقة مع رؤية المجتمع المسلم.

كتاب ميتشل هو واحد من أهم الكتب عن تاريخ الجماعة، أولا لأنه كتب بين عامي 1952 – 1960 وهي أعوام شهدت المواجهة العنيفة بين «الإخوان» وحكومة الثورة، وثانيا لأن المؤلف كان قد شهد بنفسه أحداث تلك المرحلة من تاريخ الجماعة، والتقى ببعض أعضائها. وفي مقدمة الطبعة الأولى يشير ميتشل إلى أن من الصعب الحكم على مستقبل الجماعة، أو إعطاء إجابة شافية عن مستقبل آيديولوجيتها، ولكن ما لاحظه المؤلف هو أن الجماعة تطرح نفسها كجواب على سؤال النهضة على طريقة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ولكنها في الحقيقة تطرح أفكارا «راديكالية» وتأبى التغيير في أصول آيديولوجيتها إلى الحد الذي تكون معه «غير متسامحة».

لقد حاول اثنان من الباحثين الكبار تحليل هذه الظاهرة - أي سر استمرار الجماعة - أحدهما فهمي جدعان في كتابه «الماضي في الحاضر» (1997)، وبراينار لياء في كتابه «جماعة الإخوان المسلمين بمصر» (1998).

جدعان قال إن فكر الجماعة غير مكتمل وقاصر وهو جاء كنتيجة للجدل الفكري حول كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق (1925)، ولهذا فإن فكر «الإخوان» تأسس على نظرية الدولة المسلمة، في استمرار لتأثير محمد رشيد رضا، ومن أهم ما أشار إليه جدعان هو أن الجماعة تأسست تربويا على أفكار حسن البنا، وسياسيا على أفكار عبد القادر عودة، واجتماعيا على أفكار سيد قطب، وأنها منذ ذلك لم تقدم أي جديد فكريا. والدليل هو في تقليدية كتابات يوسف القرضاوي التي عززت آيديولوجية الجماعة دون أن تقدم أي فكر جديد يذكر.

براينار لياء من جهته، وهو بالمناسبة مؤلف الكتاب الأخير عن أبو مصعب السوري (2010)، يؤكد الفكرة ذاتها ويضيف أنه أعاد دراسة المرحلة التأسيسية لـ«الإخوان» في الإسماعيلية، واكتشف على ضوء مصادر جديدة أن الخلافات داخل جماعة «الإخوان» بين عامي 1931 - 1932 قد خلقت نوعا من «الزنوفوبيا» (عدم التسامح والرغبة في تدمير الآخر) داخل تفكير المرشد وأتباعه صبغت الجماعة بنوع من العداء للحضارة الغربية والفكر الحضاري الحديث لا يمكن تغييره. ولهذا أصبحت الجماعة، على الرغم من ممارستها السياسية، مخادعة، وتتحين الفرص للانقلاب على الأنظمة التي تراها مخالفة للإسلام.

في العالم العربي تمكنت الجماعة من التصالح المؤقت مع بعض الأنظمة ولكنها كانت تتطلع على الدوام لتحقيق مصالحها على حساب الشرعية والاستقرار، فهي استطاعت التعايش مثلا في السعودية والخليج والتحصل على دعم مادي ومعنوي مستغلة معارضة بعض الأنظمة للمد الناصري والشيوعي، وهو ما سمح لها بالتأثير على المؤسسات التربوية والدينية داخل تلك الدول، ولكن في لحظات الاختبار الصعبة ثبت موقفها المناهض للأنظمة المدنية الحديثة، وحرب الخليج وموقف «الإخوان» من غزو العراق للكويت والسعودية، خير مثال.

في العالم الغربي كان هناك ولا يزال جدل حول القدرة على الحوار مع هذه الجماعة، وكانت هناك أصوات مؤيدة للحوار مع «الإخوان». وفي أعقاب 11 سبتمبر (أيلول) حاول «الإخوان» الذين تضرروا من «الحرب على الإرهاب» تبرئة منهجهم ومهاجمة السلفية كسبب رئيسي للإرهاب، ولكن سبعة أعوام من الحوارات الخفية والعلنية بينهم وبين الغربيين - والأميركيين كذلك - أثبتت فشل مقولة الاعتدال التي يتذرع بها «الإخوان»، لأنهم عجزوا عن القطيعة مع ماضيهم الراديكالي والقبول بالمدنية الحديثة عوضا عن «الحاكمية» - المنهج القطبي مثالا - كما يشير لورينتزو فيدينو، ومحمد جمال باروت وغيرهما من الباحثين. لطالما وصف «الإخوان» أنفسهم بالاعتدال منذ كتاب الهضيبي «دعاة لا قضاة» (1969)، ولكن ستين عاما من الجمود الفكري أثبتت أن الجماعة ترضى بأن تكون جماعة محصورة على أن تجدد في تفكيرها الانقلابي الراديكالي بانتظار وصولها إلى الحكم.