المدرسة اليوم.. أُمّ حانية أم زوجة أب جائرة؟!

TT

عشرات السنين مضت على ذلك اليوم البعيد الذي انتقلت فيه طفلا - لأول مرة - من أحضان الأسرة وألفتها إلى العالم الخارجي الذي تمثله المدرسة، بعد أن استبقت الأسرة هذا اليوم برسم الكثير من الصور الوردية في مخيلتي للمدرسة والتعليم والمعلمين. والحقيقة أن اليوم الأول في المدرسة هو الذي يحدد - بالنسبة للطالب - إن كانت المدرسة أُمًّا حانية عطوفا، أم زوجة أب جائرة متسلطة، فذكريات اليوم الأول لا تنسى، ولا تذبل، ولا يداهمها النسيان، وما زلت أذكر الصفعة التي تلقيتها في الساعات الأولى من مراقب المدرسة، لأنني رحت أركض مع الأطفال، وتركت حقيبتي الحديدية الثقيلة خلفي في أحد الأركان. كرهت يومها ذلك المراقب، ثم ألحقت به عددا من المعلمين المتجهمين. نفرت من المدرسة، وسقطت كل الصور الوردية التي رسمتها الأسرة لذلك العالم، وأنا أشاهد «الفلقة» تقيد بها أقدام الصغار، و«الخيزرانات» الطويلة تنهش أجسادهم. وتحولت المدرسة في ذهني إلى مكان للتعذيب والأشغال الشاقة، حتى إنني كنت أغبط زملائي الصغار الذين فروا بجلودهم مبكرا ليلتحقوا بمهن آبائهم، وفق نظرية «صنعة أبوك لا يغلبوك». ولأن والدي كان بحّارا فقد كنت أحلم طوال طفولتي بالبحر والموج والمركب والمجداف، وباليوم الذي أخرج فيه من سجن المدرسة إلى حرية البحار، لكن الأب الذي جرب غدر البحر مرات ومرات ظل مصرا على إنقاذ ابنه البكر من أن يرتدي جلباب أبيه، وظلت العلاقة بيني وبين المدرسة متوترة طوال مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ورافقتني بعض آثارها إلى قاعات الدراسة الجامعية، وإن كنت أقر اليوم بأن ذلك الجيل من المعلمين كان مخلصا وأمينا وصادقا في تربيتنا، لكن ضمن سياقات ومفاهيم وثقافة عصره.

ومن المفارقات الطريفة التي لم أخطط لها أن أبدأ حياتي معلما، ثم محاضرا، ثم موجها تربويا في إحدى الإدارات التعليمية، محاولا مع جيل جديد من المشتغلين في حقل التعليم تغيير الصورة، ولست أدري إن كنا استطعنا فعل شيء أم لا تزال المدرسة تحمل وجه زوجة الأب الجائرة المتسلطة، فلقد تركت حقل التعليم منذ عقود إلى مجال الصحافة، حالما بأيام أجمل وأرحم بأبنائنا الطلاب من تلك الأيام العصيبة التي عانيناها على مقاعد الدراسة.

أكتب هذا اليوم، ونحو خمسة ملايين طالب سعودي صفعوا الأرض هذا الصباح بأقدامهم الصغيرة في اتجاه المدرسة، ونسبة منهم يقضون يومهم الأول على مقاعد الدراسة، فرفقا بهم وبنا: اجعلوا بوابات الولوج إلى عالم المستقبل أكثر جاذبية وإغراء ومحبة.

[email protected]