فرق الإعدام

TT

تحدثت إذاعة الـ«بي بي سي» إلى جنود عراقيين شاركوا في الحرب مع إيران، وسألتهم عما يذكرون منها، وما هي الآثار التي تركتها في نفوسهم. وقد لاحظت وأنا أصغي إلى الشهادات أمرين: الأول، أن الإذاعة البريطانية، التي تبث من «بوش هاوس» على التيمس، هي الإذاعة الوحيدة الناطقة بالعربية، التي تطرح قضايا اجتماعية إنسانية بشرية. مرة عن أطفال الشوارع، ومرة عن الفقر، ومرة عن البطالة، ومرة عن أي قضية تهم بسطاء العرب، فيما تردد الإذاعات الأخرى إما أغاني روبي وملحقاتها، وإما الأناشيد التي لا تؤمن رغيفا ولا قوتا ولا حرية.

وهذا أمر غير مفاجئ، لكنه عيب متماد، أي عيب، والله عيب، أن تكون إذاعة أجنبية وحدها قادرة على طرح أعمق وأخطر وأشمل القضايا الاجتماعية، فيما تتظاهر مئات الإذاعات الأخرى بأننا بلغنا المدينة الفاضلة والبلد الكامل ولا فقر ولا أحزان ولا أمراض ولا بطالة ولا قهر ولا تخلف.

الملاحظة الثانية، قلت في نفسي، إلى متى سوف يبقى هذا الإنسان العراقي متنقلا من حرب إلى حرب، ومن موت إلى موت، ومن ظلم إلى أظلم. وكم هي قدرة هذا الشعب على الصمود وهو لم يعرف حياة عادية منذ 1958، فما زال من انقلاب إلى مذبحة، ومن مجزرة إلى سجون، ومن سجون إلى تشريد، ومن بطولة فارغة إلى ساحات مكتظة بالجثث. تحدث الجنود السابقون عن أن خوفهم لم يكن من المحارب الإيراني أمامهم، بل من «فرق الإعدام» التي خلفهم. وتحدثوا عن نوعية المعاملة التي كان يلقاها المجندون. وقيدوا أن المجندين كانوا يؤخذون إلى الجبهة بعد دورة «عسكرية» لا تزيد على عشرة أيام. يخطر لي دائما كيف كان بدر شاكر السياب سوف يكتب قصيدته عن العراق اليوم، لو أنه عاش ليشهد مليون أرملة ومئات آلاف الأيتام وربع الشعب العراقي مهجرا في الداخل ومهجرا في الخارج؟ وهل ما زال حزن الموال العراقي كافيا هو أيضا لندب الأحوال ما بين دجلة والفرات؟

ما هذه النظرة العربية إلى المأساة؟ كأنما الفقر فرض والتيه حظ وتفجير الأطفال يوميات عادية لا نعرف اسم كاتبها لكي لا نعرف مدى ساديته وهمجيته وتوحشه. إنها مجرد يوميات إذاعية وأرقام كأخبار لا تعني أحدا، من الصومال إلى العراق والآن إلى اليمن. باب مفتوح إلى الموت والقتل والخراب والأيتام والمرض والجياع. وسمات القبور. وأصحاب قرار الكلام يتركون الميكروفون إما لسقط الكلام أو لسقط الأغاني. عالم لا مكان فيه للإنسان، إلا كرقم آخر في تفجيرات بغداد.