المفاوضات باعتبارها مسارا وحيدا للحل

TT

بعد قرابة سنتين من الجولات التي لم تتوقف على طائرات الشرق الأوسط ودروبه، نجح مبعوث الرئيس الأميركي جورج ميتشل في جعل «المفاوضات» سبيلا وحيدا للتسوية والحل.

والطريف أن هذا الإثبات جاء عشية التوقف العملي للمفاوضات، بسبب عجز الحكومة الإسرائيلية عن تمديد فترة الوقف الجزئي للاستيطان. ولهذا «العجز» ثلاثة أسباب؛ أولها ازدياد نفوذ المستوطنين في السياسات الإسرائيلية الداخلية منذ قتل أحدهم رئيس الوزراء إسحاق رابين عام 1995. وثانيها عدم نضج «مسألة الدولتين» لدى النخب الإسرائيلية يمينا ويسارا، وبالتالي عدم القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة في مسائل أساسية بهذا الاتجاه. وثالثها ما استقر في أذهان دعاة استخدام القوة في إسرائيل من أن «الحل» يمكن فرضه على الأرض بالحرب وبدفع الفلسطينيين في القدس والضفة إلى الهجرة عن طريق الاستيطان، بدلا من دعوات «الترانسفير» العلنية. ومع أن الإدارات الأميركية السابقة، حتى أيام بوش، لم تكن مع بقاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية الأُخرى؛ لكنها عمليا لم تسهم إيجابا في ذلك. ويرجع هذا «الفشل» من قبل إلى أمرين: قرار واشنطن الدائم بالاستئثار بالحل دون الأطراف الدولية الأُخرى، ونجاحها في الاستئثار باتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة. ولذا فقد كان القرار الأميركي الثالث إذا صح التعبير: تجنب الإحالة إلى القرارات الدولية ذات الصلة، حتى لا يتنطح طرف دولي آخر - ولو كان أوروبيا - (1967 و1973) على وقف إطلاق النار، والاتجاه فورا للتفاوض على الانسحاب من الأراضي المحتلة، وتوقيع اتفاقية سلام. وبذلك فإن الابتعاد عن الإحالة إلى القرارات الدولية، أَبعد دائما التفكير في الحل الشامل، وسمح لسائر الأطراف التي تريد استمرار النزاع في إسرائيل والعالم العربي والشرق الأوسط والمجتمع الدولي (وإن اختلفت الدوافع) بأن تحفظ نفوذها القائم على التوتير والتعطيل، فأعطى ذلك الولايات المتحدة الفرصة للاستمرار أيضا في «إدارة الصراع»، وضبط إيقاعه بالحروب والأزمات، وتحركات الكر والفر.

إن ما فعله ميتشل، الذي شارك قبل عقود في مفاوضات الحلول (بعد الحروب) في فيتنام وآيرلندا، هو أنه أراد الوصول (بحسب ما كلفه أوباما هذه المرة) إلى حل بالفعل، وعن طريق التفاوض بحسب القرارات الدولية، ذاكرا هذه المرة «المرجعيات» الأصلية، ومن ضمنها المبادرة العربية للسلام. ويقول بعض المسؤولين العرب الذين تحدثوا إلى ميتشل إنه قال لهم في إحدى المناسبات عندما كانوا يمارسون عملية «نقد ذاتي» إن الأخطاء التي يذكرونها يمكن «غفرانها»، أما ما لا يمكن غفرانه بالنسبة للمصالح العربية، ولإمكانيات الوصول إلى حل، فهو الذهاب دائما إلى مفاوضات منفردة تشرف عليها جهة دولية من دون القرارات الدولية، والقبول بالاتفاقيات الجزئية والمنفردة، والتي لا تحل بل تزيد من تأجيج النزاع.

وإذا كان هذا الأمر (أي الاقتناع بضرورة الوصول إلى حل لا يوصَلُ إليه إلا عن طريق التفاوض) إنجازا رئيسيا لميتشل وللإدارة الأميركية الحالية؛ فإن الأمر الآخر، أو الإنجاز الآخر، هو إنجاز عربي وفلسطيني. فقد كان صعبا وصعبا جدا العودة إلى التفاوض بعد الحرب على لبنان عام 2006، والحرب على غزة أواخر عام 2008. لقد كان بوسع «العرب المعتدلين» القول إن حكومة نتنياهو لا يمكن التفاوض معها لأنها حكومة مستوطنين وهي لا تريد السلام. وكانوا بذلك سيحظون برضا جمهورهم، ويسقطون حجج الراديكاليين الذين يتهمونهم بالاستسلام وبيع القضية. لكنهم راهنوا هذه المرة رهانا ما كان خاسرا، لأن كل الدلائل كانت تشير إلى مقاربة أُخرى ما عرفها التفاوض العربي - الإسرائيلي من قبل.

ما الذي سوف يحصل الآن، بعد أن اتهمت وزارة الخارجية الأميركية الجانب الإسرائيلي بالتسبب في تعطيل التفاوض؟ لقد كان الرئيس الأميركي قد أعلن في خطابه بالأُمم المتحدة أنه يأمل أن تشهد الدورة المقبلة للجمعية العامة الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. فأمام سائر الأطراف فرصة لا تتجاوز العام. وخلال هذا العام، سيضطر الإسرائيليون (وهم لا يستطيعون الهروب إلى الحرب كالعادة) إلى تغيير حكومتهم أو تعديلها. أما العرب (والفلسطينيون على الخصوص) فيواجهون تحديين: التحدي الأول بقاؤهم موحدين صانعين سقفا للتفاوض، مشجعين سورية ولبنان على الانضمام إليه.. والتحدي الآخر صنع السلام الفلسطيني - الفلسطيني مهما كلّف الأمر. فليس الوقت الآن لتحديد صيغة الحكومة الفلسطينية المقبلة؛ ذلك أن الحكومة تكون بعد التحرير. والموجود الآن إدارتان مؤقتتان في ظل الاحتلال. إنما عليهم جميعا الدخول في العملية لتحسين الشروط، وللوقوف صفا واحدا أمام العالم، باعتبارهم أصحاب قضية عادلة، وشعبا يريد التحرير وتقرير المصير.. والدولة. وينبغي في هذا الصدد التخلّص من أربعة أَوهام: أن الحل إما أن يحصل مرة واحدة وإما ألا يحصل، وأن العالم الغربي واقف سلفا مع إسرائيل، وأن «الشراكة» مع الجوار بحد ذاتها ليست دليل ضعف أو قوة، وأن «القرار المستقل» ينافي التواصل مع العالم من موقع الندية. فالحل الذي بدأت معالمه تتضح أخيرا من خلال التفاوض له مسارات وتداعيات قد يطول أمدها وموجاتها ومدها وجزرها بعد الإعلان عن الدولة. وهو يتعدى حدود فلسطين إلى مشارق العالم العربي ومغاربه. إنها إعادة صياغة لعلاقات العرب بأنفسهم ودولهم وجوارهم والعالم؛ لذلك لا بد من استمرار المتابعة والنضال وإصلاح الشأن الداخلي، ولملمة الأطراف من العراق إلى اليمن.. والصومال.. وليس بين غزة ورام الله وحسب. أما العالم الغربي فهو مع الكيان الإسرائيلي، لكنه ليس مع احتلال الأرض، واستمرار التوتر في المنطقة. وقد قال الأميركيون مرارا خلال العامين الماضيين إن استمرار النزاع يهدد مصالحهم الوطنية. والحلول المزغولة تبقي التوتر ولا تزيله، كما حصل مع الاتفاقيات الثلاث السابقة. وبذلك، أي بالحلول الجزئية والمؤقتة، تظل المصالح الأميركية مهددة. وما عاد الأميركيون هم الذين يتسببون في تهميش الأوروبيين؛ بل إن المشكلة لدى الأوروبيين أنفسهم، وهم صناع الصهيونية الحقيقيون. وعليهم أن يقرروا إصلاح العلاقة مع العرب في الشرق الأوسط وفي ديارهم هم، وليس التلهي بمنع النقاب والمآذن والأحاديث في معنى الهوية الوطنية. وقد جاء الجوار الإيراني والتركي إلينا ليس منذ الآن بل منذ قرون وبأشكال مختلفة. لكنهما دولتان، ونحن دول، وأحيانا أمم. ولذا فالحلُّ للمشكلات معهم لا يكونُ بالطلب إليهم ألا يتدخلوا في شؤوننا؛ بل أن نعرف ماذا نريد ولا نريد، ونعمل بشكل مشترك على قول ذلك لهم وإنفاذه. وقد بدأت الشراكة المتجددة مع العالم منذ «قمة العشرين» على أثر الأزمة المالية العالمية، فلنمض قدما لتحقيق «القرار المستقل» عن طريق الدخول مع العالم سياسيا واستراتيجيا وليس ماليا واقتصاديا وحسب. فالخيار ليس بين الاستقلال أو التواصل؛ بل بين الشراكة والتبعية الحاصلة الآن.

للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمان، تحقق الولايات المتحدة نجاحا في المنطقة من دون عسكر ولا أساطيل، وإنما بالعودة إلى الشرعية الدولية، والقرارات الدولية، والهيبة والصدقية. وإذا امتلكت هذه الإدارة الشجاعة للاستمرار؛ فإن العلاقات بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي، يمكن أن تتواصل في طريق النقاهة والاستقامة.