ثقافة الموت وثقافة الحياة

TT

هناك مثل فرنسي يقول: «من لم يكن وهو في العشرين من عمره يساريا أو ثوريا، ليس بإنسان طبيعي، ولكن من يبقى يساريا وثوريا، بعد الأربعين، فهو، أيضا، إنسان غير طبيعي». عرف هذا القول قبل سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية، فكيف الآن؟ اللهم إلا في بعض الدول العربية والإسلامية، حيث تدور، اليوم، معظم الحروب والثورات والانتفاضات و«الفتنات» في العالم. وحيث المتظاهرون والمقاتلون و«الجهاديون» هم في العشرينات من عمرهم أو أقل؟! ومن هم دون الأربعين، كثيرون! فهل يمكن اعتبار هذه الظاهرة طبيعية؟ وهل يكون العرب والمسلمون آخر الثوريين في التاريخ؟ وإلى أين ستقود هذه الثورية الجديدة ذات الشعارات العقائدية الدينية، في حال نجاحها أو فشلها؟ هل إلى تحقيق أماني الإنسان والشعوب العربية والإسلامية؟ (وهل هي واحدة؟!) أم إلى مزيد من التوتر والعداء والتصادم مع الغرب الأميركي - الأوروبي؟ وهي معركة خاسرة سلفا؛ نظرا لتفاوت القوى المسلحة للطرفين والطاقات الاقتصادية والتكنولوجية. أم إلى ثورات وانقلابات ودكتاتوريات وحروب أهلية وفتن وتشرذمات عرقية وطائفية في المجتمعات الوطنية (كما هو حاصل في العراق والصومال وأفغانستان وغيرها؟). وأخطر من كل ذلك هو نجاح الأحزاب أو الجماعات المقاتلة تحت شعارات العداء للغرب ورفض السلام، في الوصول إلى الحكم في بعض الدول الإسلامية والعربية الكبرى وتحكمها في النفط شريان حياة الدول والمجتمعات. أو حيازتها السلاح النووي. لأن ذلك يعني نشوب حرب عالمية ثالثة ونووية هذه المرة.

لا خلاف على أن الدول الغربية أساءت تاريخيا للعرب والمسلمين، منذ الحروب الصليبية، مرورا بالاستعمار الأوروبي لمعظم الشعوب العربية والإسلامية ووصولا إلى دعم إسرائيل في الاستيلاء على فلسطين وتشريد الشعب الفلسطيني، واحتلال العراق وأفغانستان، وكان «من حق» العرب والمسلمين الشعور بالنقمة أو بالعداء لها. ولكن الدول الغربية المسيحية قد قاتلت، أيضا، بعضها بعضا، طيلة مئات السنين، وفي حربين عالميتين. ولم يكن الدين أو العرق المختلف هما سبب تلك الحروب. و هي اليوم، وإلى حد ما، في حالة «دفاع عن النفس»، بعد 11 سبتمبر (أيلول)، والعمليات الإرهابية التي قام بها متطرفون إسلامويون في عقر ديارها. ولن يهدأ لها بال طالما أن طالبان و«القاعدة» لم يفقدا إمكانية العودة إلى كابل، وما زالا يهددان بالقيام بتفجيرات في نيويورك ولندن وباريس. وطالما أن مدن الغرب - و الشرق - الكبرى، ليست بمأمن من الإرهاب.

قد يرى البعض في هذه الرؤية للأمور دفاعا عن الدول الغربية، أو تبريرا لاحتلالها للعراق وأفغانستان، أو تخليا عن قضية الشعب الفلسطيني واستسلاما للاغتصاب الإسرائيلي. كلا، وألف كلا. بل إنها رؤية واقعية، منطقية، إيجابية، للأمور وللعالم وللتاريخ. وأمامنا مثلان صارخان هما ألمانيا واليابان اللتان تحتلان، اليوم، الصفوف الأولى بين الدول المتقدمة على كل الأصعدة. فلقد خرجتا من الحرب العالمية الثانية شبه مدمرتين واستطاعتا، باتباعهما سياسة طي صفحة الماضي وأحقادها وسلبياتها، بناء اقتصاد ومجتمع جديدين، في ظل الديمقراطية، (غير عابئتين بالجيوش الأجنبية التي تمركزت في أراضيها)، والتغلب على الهزيمة والاحتلال، والتفوق على الذين تغلبوا عليهما بقوة السلاح.. وعسكروا في أراضيها.

كلا؛ إن هذا المنطق لا يعني التخلي عن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الصهيوني، ولا الاستسلام لسياسات دولية تتعارض ومصلحة الشعوب العربية والإسلامية، بل هو رفض لما يجري في أكثر من دولة عربية وإسلامية من دعوات متطرفة عقائديا وسياسيا، أدت وستؤدي إلى حروب أو شبه حروب أهلية. بل هو رفض لانقسام القيادات الفلسطينية إلى ثلاثة وأكثر من فريق، يتهم كل واحد منها الآخرين بخيانة القضية الفلسطينية. بل هو رفض لما يجري في لبنان من جموح على الدولة وتهشيم للمؤسسات وتهديد بحرب أهلية جديدة. بل هو رفض للجوء بعض المعارضين والمقاومين في الدول العربية والإسلامية، إلى العنف والإرهاب ونسف الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط والعالم. بل إنها دعوة إلى المقاومة والتغلب، ولكن بعقلية وأسلوب جديدين.

كلا؛ إن الدعوة إلى إنهاء التقاتل بين الأنظمة والشعوب العربية والإسلامية، وإلى إقامة علاقات سلام وتعاون بين العالمين العربي والإسلامي، وبين العالم، لا تعني التنازل عن الحقوق والمصالح، بل إنها اختيار لطريق إيجابي وواقعي في خدمة هذه الحقوق وهذه المصالح. وأن بناء الاقتصاد الحديث والمجتمعات المتقدمة والإنسان العربي والمسلم الجديد، المتفاعل مع العصر والعالم، هو الهدف الذي يجب أن نضعه أمام أعيننا ونسعى للوصول إليه.

كلمة أخيرة: إن هذه الدعوة موجهة أيضا إلى الأصوليين والمتطرفين والمحافظين والمتعصبين، في إسرائيل وفي المجتمعات الأميركية والأوروبية، الذين يمدون، بمواقفهم وتصرفاتهم، المتطرفين والمتعصبين والسلبيين العرب والمسلمين، بمبررات تطرفهم وسلبيتهم ولجوئهم إلى العنف. فهؤلاء، أيضا، مسؤولون عن دفع الشرق والغرب إلى التصادم والتحارب.

وبين المراهنة على التعصب والحقد والعنف والموت.. و المراهنة على الحياة والانفتاح والسلام، فرق. وأي فرق.