انتسبوه

TT

اكتشفت، لنفسي، منذ زمن طويل، أن «المختارات» المدرسية والجامعية، بكل اللغات، مصدر غني في عملية البحث عن الموضوع. ليس معنى ذلك أن تنقل عنها ولا أن تسرقها ولا أن تقتبسها، وإنما هي غالبا تذكرك بما قد نسيت. أو تعرفك بما لم تكن تعرف. وأحيانا تنتهي إلى أنها متعة في أي حال.

«الكتابة والقراءة من خلال المناهج» لأستاذين من هارفارد وسانتا باربارا، كاليفورنيا، الطبعة السادسة 1997، اكتشفت فيه أمرا غير متوقع ولا مقصود. الجامعات الأميركية تعتبر إدوارد سعيد، جزءا من الثقافة الأميركية. يعدد الكتاب المعلقين الأميركيين ذوي النزعة اليسارية، فيأتي إدوارد سعيد الثاني، ونعوم تشومسكي الثالث. كنا نعتقد أن الأميركيين يرون في إدوارد سعيد فلسطينيا مضايقا، فإذا بأساتذتهم يصنفونه قبل نعوم تشومسكي في المكانة والتأثير. الاسم العربي الآخر في اللائحة من 48 شخصا، هو رالف نادر، الذي لا يكتب في أي مسألة عربية في أي حال. وبين الأسماء الأخرى، بعيدا في اللائحة، هنري كيسنجر (بين أهل اليمين) وبوب وودورد وسيمور هيرش. تكتشف اليوم حجم ومدى الفراغ الذي تركه إدوارد سعيد. هل ثمة مغالاة، أو رومانسية، في القول: إنه كان ندا، بمفرده، للوبي الإسرائيلي؟ ليس في النفوذ، ولا في البيت الأبيض، ولا في الخارجية الأميركية. لكن حتما في العقل الأميركي، وفي الضمير الأميركي، وفي الإعلام الأميركي، القادر على التلاعب بالنفوس والمواقف.

كان إدوارد سعيد منظمة قائمة بنفسها. تجاوز ذاتيات منظمة التحرير ونزاعاتها. وتجاوز عالم النفوذ والمكاسب. وتحمل طويلا صغارات الصغار الذين كلما رأوا عملاقا حاولوا تصغير حجمه، ورش سموم الشك حول جذوره. وبقي محصنا في عالمه، أو بالأحرى في قلعته الأكاديمية، التي لم يستطع اللوبي الإسرائيلي إخراجه منها.

ذلك أن إدوارد سعيد لم يطرح نفسه كداعية سياسي وإنما كقيمة ثقافية وداعية حضاري. ولا يزال كتابه عن «الاستشراق» علامة ثقافية وتاريخية فارقة في الغرب، تدور حوله مراجعات وتنطلق منه مناقشات بالغة الأهمية. وقد قلت غير مرة أن ثمة شمولية غير دقيقة في الكتاب، مثل أي تعميم في أي حقل، لكن هذا القول لا يتعدى ملاحظة عابرة وسريعة في مسألة شديدة العمق والتعقيد. وكان لا بد من تسجيل ذلك، ولو أنه من الواضح أن الزوايا الصغيرة لا تشكل نقاشا ولا بحثا في مسائل كبرى، محدودة أو لا حدود لها.

لم يتخذ كاتب عربي في الغرب، يناقش ويكتب في المسألة الحضارية وإنسانية القضية القومية، المكانة التي اتخذها إدوارد سعيد. كان يضايقني فيه - ويضايق كثيرين غيري - نزعته الشخصية إلى العجرفة. وتبدو الآن مغفورة له. لقد كان أكبر حتى منها.