«خوش انقلاب»

TT

تستخدم كلمة «خوش» في الخليج تعبيرا عن الاستحسان، وانقلاب بالفارسية تعني الثورة، واستقبل السيد أحمدي نجاد في العاصمة الصغيرة لحزب الله «الضاحية» البيروتية بشعارات تقول «خوش امديد» أي مرحبا بكم، وتحدث السيد نجاد في التجمع الشعبي الحافل مساء الأربعاء بخطاب طويل «ثوري أو انقلابي» جال فيها على معظم القضايا التي تلهب خيال المستمع الذي كان حاضرا للقاء، ويهم المدرسة النجادية. وليس من المطلوب أن يقول السيد أحمدي نجاد غير ما قاله في تلك الخطبة وفي هذه الظرف التي تمر بها إدارته. فأحمدي نجاد يشكل الشريحة المتشددة اليوم في إيران، وهو رسميا رئيس الجمهورية، أي هو الذي يتحدث عن رؤية الجمهورية الإسلامية في القضايا الدولية. ليس متوقعا أن يقول غير ما قال. ولكن المطلوب من المستمع العربي أن يفكر مليا في أقوال السيد نجاد ويفحصها لأنها تفصح عن رؤية وتفكير هو القاعدة الأساس للتفكير الإيراني السياسي اليوم، ويقارنها بمصالحه.

بدا لي أن الخطاب فيه من المنطق شيء ومن الخرافة شيء آخر، ولكن مرة أخرى هذا هو التفكير العام، إما أن نقبله أو لا نقبله. شيء من الخرافة عندما تحدث عن مطلبه الذي ذكره في نيويورك في السابق من تشكيل «لجنة محايدة» للنظر في كارثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وهو مطلب يذهب للقول بأن «الأميركيين» هم من فعل تلك الفعلة النكراء في أنفسهم لاتخاذها ذريعة. وهي نظرية، لا بد من الاعتراف أن بعض العرب يؤمنون بها! إلا أنها لا تستقيم مع المنطق، كما أنها تدل دلالة واضحة على فقر في فهم طريقة عمل المؤسسات الغربية والمجتمعات الحديثة، اللا شخصانية والقانونية في آن، على الأقل فيما يخص شؤونهم. هذا النوع من إطلاق الكلام على عواهنه مثل القول إن «المجامع الحقوقية الدولية» يقصد المحكمة الدولية، هي «تابعة للأنظمة المهيمنة» وهو مقصد يصب باتجاه تبني رأي حزب الله في المحكمة الدولية الخاصة في لبنان، إن كان هذا الموقف سياسيا موجها للغرب، فيمكن فهمه، وإن كان عن قناعة، فهو يدل على ارتياب شبه مرضي بالآخر، أما إذا كانت الإشارة في المطلق بأن المؤسسات الحقوقية الدولية منحازة لأنها قد تأخذ مسارا لا يعجبنا، فهو بالطبع تقويض لمبادئ عالمية تشارك إيران في بعض مؤسساتها، كالأمم المتحدة وما تفرع منها من مؤسسات، كونها دولة عليها واجبات ولها حقوق.

اللافت في مكان آخر من الخطاب هو إشارته لاغتيال المرحوم رفيق الحريري، دون أن يسميه! هي إشارة نفسية لها معنى، فما دام المتحدث يعترف بأن المرحوم كان رجل دولة، وحتى لو برأ من يشار إليه بشكل واسع أنه شارك في قتله، وحتى لو تبنى فكرة حزب الله بأنه قتل بأياد إسرائيلية، فما المانع من ذكر الاسم. تجاهل الاسم له إيحاء المخاصمة، أكثر مما له من مخبر التعاطف. وما يجدر ذكره، رغم أن تنظيم أمل قد شارك بفعالية في تنظيم الاحتفال، أن الرئيس لم يذكر، لا من قريب ولا من بعيد، اختفاء (اختطاف) السيد موسى الصدر الذي له مكانة عالية لدى أهل أمل وكثير من اللبنانيين، ربما ملاءمة سياسية لعدم استفزاز الآخرين، هذا التجاوز له دلالة سياسية على أن الرئيس نجاد يمكن أن يوائم في بعض الشأن اللبناني، وقد ركز على اختطاف آخر وهو اختطاف إسرائيل من ربع قرن دبلوماسيين إيرانيين.

أما الخط الاستراتيجي الأهم الذي تبناه السيد أحمدي نجاد في خطابه، فبشّر بظهور جبهة «مقاومة الشعوب» وهي المكونة - كما ذكرها الرئيس في خطابه - من طهران، وبغداد، ودمشق، وبيروت، وفلسطين، وأيضا أنقرة! وبتفحص هذا الخط الاستراتيجي يمكن القول إنه رغم عدم واقعيته على الأرض، خاصة في الموضوع التركي، فتركيا عضو نشط في حلف الأطلسي كما يعلم السيد نجاد، فإنه فيما تبقى من عواصم، إذا استثنينا دمشق، كونها حليفا معلنا، هو إيمان يصل إلى مرحلة التأكيد من الجانب الإيراني وبعض حلفائه أن تلك السلسلة من العواصم منضوية وراء تلك الجبهة، وربما بقيادة طهران. إلا أنه في الوقت نفسه اعتراف بأن كلا من بغداد وبيروت وكل فلسطين داخلة في هذه الجبهة. وهنا يثار أكثر من سؤال، الأول أن الحملة على أميركا بسبب احتلالها العراق غير مبررة إذن في الخطاب، لأنها قدمت بغداد في نهاية المطاف صيدا سهلا للاصطفاف في حلف «مقاومة الشعوب» فالأوْلى أن تُشكر على فعلها! والثاني أن بيروت أصبحت جزءا لا يتجزأ في هذا الحلف وكذلك فلسطين، وكلتاهما وإن كانت شريحة من أبنائها مع الفكرة «جبهة مقاومة الشعوب» فهناك شرائح واسعة من مواطنين لهم أجندات أخرى، مما يدلل على قرب «الانقلاب» البيروتي القادم أو التمهيد له سياسيا. وإن تحقق ذلك فقدت النجادية على الأقل هذا الزخم الإعلامي الذي تحققه لها بيروت التعددية، والذي استفاد منه نجاد لإرسال رسالة إلى معارضيه في الداخل، هذا الهامش سوف يتلاشى إن تحقق الانقلاب المرتقب.

في الخطاب كلام محمود من محمود حول فلسطين، ويعرف كثير من أبناء فلسطين أنهم في السبعين عاما الماضية أو أكثر شبعوا من الشعارات الزاعقة، وربما كان منطقيا أن يحث السيد نجاد من «يمون» عليهم في لبنان، وهم مشاركون في السلطة، أن يصبح الفلسطينيون عندهم يتساوون على الأقل في الحقوق والواجبات مع إخوانهم تحت الاحتلال الإسرائيلي، حيث يمنع عليهم رسميا، كما كتب أخيرا، شراء مسامير لإصلاح باب بيت مخلخل، فالحقوق الإنسانية الأساسية لا تتجزأ على أي أرض يعيش عليها الإنسان.

لا نعرف على وجه الدقة ما قاله السيد نجاد عشية قدومه إلى لبنان إلى خادم الحرمين الشريفين، ولا ما قاله للملك عبد الله الثاني، فقد أعلن عن تلك الاتصالات عشية القدوم، إلا أن ما نعرفه علنا هو الخطاب الذي أسهب الرئيس نجاد فيه، وهو خطاب بقراءة مفصلة له لا ينحو نحو رأب الصدع وتقليل الهواجس في الدائرة العربية التي ترى أن نصف الفارسية عربية وكل القرآن عربي، لو استخدمت تلك الحقائق بعقلانية لسهل تجسير الفجوة.

الملاحظ أن إيران «النجادية» مندفعة نحو الخاصرة العربية بأجندتها المعادية لمن يقف أمام طموحاتها من أهل الغرب. من وجهة النظر العربية أن إيران النجادية لا تعمل بالمثل الفرنسي المعروف أن «لا ترمي الطفل مع الغسيل الوسخ»! فالثقة والاحترام والاعتراف بالمصالح المشتركة التي بناها السيد رفسنجاني ببراعته، والسيد خاتمي بحكمته مع العرب، ترمي اليوم مع الغسيل الوسخ، وهو أمر لا يبشر بخير!

**

آخر المقال: قرأت أن مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» الذائعة الصيت في التثقيف الجاد قد صدرت بالعربية من أبوظبي، أهنئ القائمين على الإصدار وأعتبر ذلك إثراء للثقافة العربية وجهدا مضافا لقارئ العربية يفتح له بابا واسعا للثقافة الجادة.