الشباب والتمذهب!

TT

أدى تكاثر الفضائيات الدينية اليوم إلى حدوث نوع من الفوضى على مستوى ممارسة الشعائر الدينية، وأيضا حصول ارتباك في خصوص الهوية الفقهية في أوساط المجتمعات الإسلامية، وتحديدا الفئة الشبابية الأكثر حساسية لمسألة التدين. وبطبيعة الحال، فإن كل فضائية دينية وراءها خلفية ومقولات وأفكار ومرجعية مذهبية تستمد منها خطابها وتصوغ على ضوئها رسالتها، فالمسألة أبعد ما تكون عن التلقائية والموضوعية، بل هي إلى التنافس المذهبي والفقهي أقرب.

في هذا السياق من الصراع الخفي الذي تعيشه هويات فقهية مدفوعة بطموحات سياسية، نضع حالة الانفلات المذهبي التي يعرفها الشباب والتي تكشف عنها بوضوح تام المدونات الإلكترونية والـ«فيس بوك»، حيث نجد ظاهرة «التشيع» لدى الشباب السني في تزايد يبعث على القلق، إضافة إلى ظواهر أخرى مثل «التنصر».

ومن الواضح أن الخطاب المنظم للشأن الديني في البلدان المغاربية خاصة، متفطن إلى وجود هذه الظواهر وعلى علم بما يعتمل من مشاريع دينية تخص مذاهب أخرى وديانات أخرى، فليس من باب الصدفة أن تكرس الأجهزة الدينية جهدها في السنوات الأخيرة لنشر مؤلفات وإقامة ندوات حول السند المغاربي في ممارسة الشعائر، والمتمثل أساسا في المدرسة الفقهية المالكية.

ولكن المشكل أن هذا الجهد يبذل في أطر تتميز بالحصانة الدينية والنخبوية، في حين أن الشباب العاطل عن العمل والعامل اليومي وأصحاب التحصيل العلمي المتواضع وغيرهم هم الأكثر تهديدا بالاستلاب الفقهي، إن جاز الوصف.

فماذا يعرف الشاب المغاربي عن المذهب المالكي؟ وماذا تعني له المالكية؟ وإلى أي حد يستند في سلوكه التديني إلى مقولاتها؟ إن هذه الأسئلة - رغم بساطتها - لا شيء يضمن قدرة التونسي على التعاطي معها بسهولة. صحيح أن المالكية أرست قدمها في أفريقيا مثلا في القرن الثامن عشر الميلادي، وصحيح أن مالك بن أنس والإمام سحنون ليسا نكرة في المخيال الديني للمجتمع التونسي مثلا، ولكن التشبع بالهوية الفقهية أمر يتطلب معرفة حقيقية وتمكنا من المقولات الرئيسية على الأقل.

ونعتقد من خلال الاطلاع على بعض ما تنشره الأجهزة الدينية الرسمية في الفضاء المغاربي أن الجهد المبذول، وإن كان يستحق التقدير، فإنه في المقابل ينتظر منه أن يطال مناطق جديرة بإثارة فضول الشباب واهتمامه، أي أن المفيد ليس إبراز السند التاريخي في ممارسة الشعائر، بل توخي مقاربة تجمع بين التثقيف والمراجعة والاجتهاد في الوقت نفسه.

ذلك أنه من المهم جدا أن يعرف الشباب العربي المسلم المعني بأمر هويته المذهبية الفقهية، الدور الذي لعبه الإمام سحنون في تجذير المالكية في بعض الأقطار التي توصف بمذهب أهل الحديث، ولكن في مقابل ذلك لا شيء يمنع من فتح باب الاجتهاد والمراجعة في بعض جوانب المالكية.

ومن الخصائص التي نقصدها بالذات، تلك التي توقف عندها الأستاذ نجم الدين الهنتاتي في كتابه المرجع «المذهب المالكي بالغرب الإسلامي»، ومنها صرامة المالكية في تطبيق أحكام مسألة الحدود، وأيضا ما عرفت به من مواقف محافظة تجاه الأنظمة السياسية القائمة ورفضها الخروج عليها، وكيف أن موقفها المحافظ تجاه المرأة (مقارنة بالحنفية مثلا) حافز لإعادة التفكير في نظرة المذهب المالكي، ليس في مسألة المرأة فقط التي من المهم أن تكون في انسجام مع الرؤية الحضارية القائمة على الحداثة، ولكن أيضا من المهم مراجعة ما يكاد يجمع حوله معظم المختصين من أن المالكية في فترة تجذرها لعبت دورا في ممارسة الحصار الفكري والرقابة على أصحاب الرأي المخالف لهم، مما أنتج لديهم ثقافة «التكفير».

لقد دخلت البلدان المغاربية وأيضا الأخرى المشرقية بعد الاستقلال في نوع من عدم التمذهب نتج عنه ثقافة مذهبية ضعيفة. وأظهرت التجربة أن الثقافة الفقهية مهمة حتى وإن كان الأمر يتعلق بمن لا يمارسون الشعائر الدينية، فشأن العارف لا يقارن بمن يجعل منه عدم المعرفة لقمة سائغة.

إن الفرصة مواتية جدا كي يمعن الأئمة في الجوامع ودعاة الفضائيات في المواضيع الكبرى التي تمس مفاصل المذاهب الفقهية وخصائصها بشكل يراوح بين التثقيف والحوار، الذي يجذب الشباب ويشبع طموحهم البديهي لتبادل المعطيات والأفكار.