مكيدة أخرى في أرض المؤامرات

TT

بالكاد يمر يوم واحد من دون أن تزعم القيادة في طهران أن النظام الحاكم يواجه مؤامرة أخرى. فتارة يأتي التهديد من الأكراد الذين يطالبون بالاستقلال. وتارة أخرى، يأتي الأذى من جانب الشعب البلوشي. بل وفي بعض الأحيان، تكون السوق التجارية (البازار) في قلب المؤامرات. وماذا عن عمال الصناعة الذين يدل صراعهم من أجل النقابات العمالية المستقلة على الميل إلى المؤامرة؟

إن القائمة طويلة للغاية.

ومع ذلك، فإن الادعاء الأخير الذي أتى من جانب أحد كبار الشخصيات، وهو حيدر مصيلحي، يتفوق على المزاعم الأخرى.

وقد جذب الادعاء، الذي هو حديث المدينة في طهران حاليا، الاهتمام لسببين:

أولهما: أن الشخص الذي قام بالادعاء هو أحد آيات الله، ويترأس وزارة الاستخبارات والأمن، ويسيطر، على الأقل، على بعض الخدمات السرية للجمهورية الإسلامية.

ثانيهما: هو طبيعة الادعاء.

وهذا ما جاء على لسان مصيلحي: «إن المبشرين الأجانب يستهدفون الأفضل والأكثر بريقا، ألا وهم الطلبة الشيعة المتخصصون في علوم الدين، لا سيما في قم. وقد نجحوا في تحويل البعض منهم إلى اعتناق المسيحية».

ولم يفصح مصيلحي عن جنسية هؤلاء المبشرين الأجانب، ولكنه يؤكد أن تركيا قد أصبحت قاعدة لمحاولة دفع الأفراد لاعتناق الدين المسيحي. وهكذا، يسافر طلبة العلوم الدينية من قم إلى تركيا للحصول على المعمودية إلى جانب المزيد من المعرفة حول العقيدة المسيحية. ويعود هؤلاء الطلبة الذين اعتمدوا للتو، والمعروفون باسم «طلاب»، إلى قم والمعاهد الشيعية الأخرى في الجمهورية الإسلامية، كمسيحيين سريين مهمتهم تحويل زملائهم من الطلبة إلى الدين المسيحي.

بيد أن آية الله ورئيس الشرطة السرية لم يفصح عما ينوي فعله بشأن هذا «التطور الكارثي»، وخصوصا أن الطلاب الشباب في قم يتلقون تعليما كافيا في فن «التقية» بما يمكنهم من إخفاء تحولهم إلى المسيحية بسهولة نسبية.

حتى الآن، لم تتخذ وزارة الاستخبارات أي إجراءات أكثر من مجرد توجيه تعليمات إلى الكنائس في غيران بعدم السماح بدخول أي فرد إليها من دون التحقق أولا من هويته أو هويتها «الدينية».

ويبدو أن مهمة محاولة فعل شيء بشأن جماعة «طلاب» قد تركت لملا آخر، علي خامنئي، «المرشد الأعلى» شخصيا. بعد أقل من أسبوع من إصدار مصيلحي تحذيره، سارع «المرشد الأعلى»، الذي نادرا ما يغادر حصنه في طهران، إلى زيارة قم لإلقاء خطبة على «طلاب» حول مزايا تمسك المرء بدين آبائه.

في خضم خطاب ألقاه، تناولته وسائل الإعلام الرسمية على نحو مكثف، حذر خامنئي مما وصفه بـ«الغزو الثقافي» الذي ادعى أنه أشد صعوبة من الهجوم العسكري.

ولا يعد مصيلحي وخامنئي أول اثنين من الملالي يعربان عن مخاوفهما حيال أجراس الإنذار التي تتصاعد بشأن المسيحية. ففي القرن الـ18، في وقت لم يكن المذهب الشيعي قد رسخ جذوره بعد داخل إيران، دعا الملالي مرارا إلى الجهاد ضد «الكفار الداخليين». وفي أغلب الحالات، أسفر ذلك عن اقتراف مذابح ببعض القرى المسيحية. (أما اليهود والمجوس فنجوا من ذلك لعدم وجود طموحات تبشيرية لديهم).

وحسب بعض الخبراء، فإن «طلاب» ربما يبدون استقبالا جيدا لرسالة المسيحية نظرا للتشابهات بين الديانتين. مثل المسيحية، فإن المذهب الشيعي، خصوصا الفرقة الإثني عشرية منه، تبجل ثقافة الشهادة. وغالبا ما يجري النظر إلى الإمام الحسين الشهيد كشخصية قريبة لشخصية السيد المسيح في المسيحية، باعتباره مدافعا عن الحق ويتعرض للخيانة ثم يقتل في النهاية على يد حاكم طاغية.

كما أن فكرة المهدي، الشخصية الأشبه بالمخلص الذي يأتي آخر الزمان، يمكن مقارنتها بفكرة المجيء الثاني للمسيح.

مثل المسيحية، تعد الشيعية مذهبا يمجد القديسين، ففي إيران وحدها هناك أكثر من 7000 مكان مصنفة باعتبارها تخص قديسين. وقد أضفيت القدسية إلى بعض الأماكن لأنه من المفترض أنها تحمل آثار أقدام فَرَس كان يمتطيه إمام ما. واكتسبت بعض الأشجار قدسية لأن «قديسا» ما استظل بها. وتتمثل آخر هذه الأماكن المقدسة في قرية جامكاران، الواقعة جنوب غربي طهران، حيث يفترض أن الإمام المختفي يجمعه خط اتصال بداخلها مع المؤمنين. وكل عام، يسافر أحمدي نجاد ووزراؤه إلى هذه القرية لتقديم «تقرير» إلى الإمام المختفي. ويجري إلقاء برنامج الحكومة للعام المقبل في بئر من المفترض أن يصل عبرها إلى «صاحب الزمان».

وسنويا، يذهب نحو 20 مليون شخص في ما يدعونه «حجا» لمثل هذه الأماكن للتوسل للشفاء من مرض أو الحصول على مزيد من المال أو مجرد طلب المغفرة. والمؤكد أن بعض الذين يألفون أماكن الحج المسيحية، مثل المكان القائم في لورد، بجنوب غربي فرنسا، سيشعرون بألفة ببعض المناطق «المقدسة» في طهران.

من جانبه، اكتشف، هنري كوربان، الخبير الفرنسي بالمذهب الشيعي الكثير من التشابهات بين المسرحيات الدينية المسيحية و«التعزية» الشيعية التي يجري خلالها تصوير استشهاد الإمام الحسين ورفاقه الـ71.

ومن بين نقاط التشابه الأخرى وجود كهنوت مهني في الجانبين وفكرة عصمة الأئمة أو البابا، وهي تشابهات قد تجتذب بعض عناصر «طلاب» الجانحة. مثلا، يعتقد مصيلحي وخامنئي أن أي شيء نطق به الراحل آية الله روح الله الخميني صالح إلى الأبد بفضل العصمة التي ورثها عن الأئمة.

وكان علي شريعتي، الواعظ الذي اجتذب جماهيرية كبيرة داخل إيران في ستينات القرن الماضي، مدركا لهذه التشابهات، ودعا إلى إدخال تغييرات كبرى على المذهب الشيعي. ودعا إلى إلغاء الكهنوت كمؤسسة، وعارض فكرة وجود قديسين والحج إلى أماكن مشكوك في مصداقية ما هو منسوب إليها. إلا أنه سقط أمام فكرة مسيحية أخرى، وهي تقديس السيدة مريم، حيث أصدر دعوة لوضع السيدة فاطمة في مكانة محورية داخل الفكر الديني.

ولو كان شريعتي حيا اليوم، لأدرك أن التاريخ تحرك في الاتجاه المعاكس لما دعا إليه. عام 1970، كان هناك ما يقدر بـ50.000 ملا و«طلاب» في إيران بين إجمالي سكان بلغ 30 مليون. اليوم، يقترب هذا العدد من نصف مليون بين إجمالي سكان يبلغ 73 مليون نسمة.

ربما لا يعلم مصيلحي وخامنئي ذلك، وليس شريعتي حيا ليدركه أيضا، لكن من المحتمل أن العناصر الجامحة من «طلاب» الذين لم تحدد هوياتهم وأعدادهم بعد، لم تعد راضية بنظام يستغل، وغالبا ما يسيء استغلال، الدين لأغراض سياسية لخدمة نسبة صغيرة من رجال الدين وشركائهم العسكريين.