ولبريد القراء شروط مهنية

TT

أصدرت الـ«ديلي تلغراف» العريقة كتابا جديدا، من سلسلة الوصف المؤرخ للصحافة البريطانية وعلاقتها بالسياسة وبالمجتمع البريطانيين، كمختارات افتتاحيات «التلغراف»، من حرب القرم 1856 إلى حرب العراق 2003، ومن ظهور عصبة الأمم، حتى «خدعة» معاهدة لشبونة (خدع بيروقراطيو الاتحاد الأوروبي الشعوب بإعادة تغليف الدستور الموحد، «كمعاهدة لشبونة» للتنصل من وعد الاستفتاء بعد أن جاءت النتائج برفض وحدة بديكتاتورية الاتحاد السوفياتي تحكمها أوتوقراطية غير منتخبة)، وككتاب «تقارير المراسلين الحربيين»، وسلسلة «قرن من الكاريكاتور»، ومختارات مما نشر من رسائل القراء.

قراء «التلغراف» من النصف الأعلى من الطبقة الوسطى والضباط المتقاعدين والمهنيين وأصحاب الألقاب المحافظين، أي ضمير الأمة البريطانية الذي يحاول حماية أهم ملامحها الاجتماعية ومثلها العليا من معاول الفوضى التحديثية.

الكتاب الجديد بعنوان «ما لم ينشر من رسائل القراء».

فما تنشره الصحيفة 10% من الرسائل؛ مطبوعة، وصوتية وإلكترونية (يوم الخميس الماضي نشرت الصحيفة 19 رسالة تتناول تسعة مواضيع، وصورة أرسلها قارئ مع مقتطفات من الكتاب المذكور). والقسم هو ديسك تحتي (فرعي) من ديسك التحليل والرأي وكتاب الافتتاحية.

ديسك الرسائل، في الصحف العريقة الكبرى مثل «التايمز» أو «التلغراف» يتكون من رئيس الديسك ومحرر، وباحث، وسكرتيرة ونصف (أي واحدة تعمل نصف الوقت)، وهذا في زمن التقشف (أيام العز قبل 30 عاما، أنّبني مدير التحرير مرة لمطالبتي بثمن تذكرة أتوبيس بقوله: «الأتوبيس لا يليق بمراسل التلغراف يا ولدي العزيز، أريد إيصال تاكسي» ويومها ضم ديسك البريد سبعة صحافيين).

ما لم ينشر، ليس بسبب رقابة (لا توجد هنا رقابة على الصحف، ولا قانون ينظم الصحافة ولا يحتاج إصدار صحيفة لترخيص من أي جهة) أو عدم اللياقة، وإنما لضيق المساحة أو لعدم علاقتها بالأحداث الجارية.

بريد القراء نافذة تفتحها الصحيفة على رأي المجتمع الأوسع ورد فعله تجاه القضايا المنشورة (والاسم المعروف تقليديا كعنوان للصفحة ولم يتغير من صحيفة إلى أخرى طوال ما يزيد على قرنين من الزمان هو رسائل إلى المحرر Letters to the Editors) ودائما تبدأ الرسالة بمخاطبة العالم الأوسع من خلال مخاطبة المحرر، باعتباره صحافيا محترفا يمثل السلطة الرابعة بالعبارة: «سيدي العزيز Dir Sir» حتى ولو كان رئيس التحرير امرأة (والحمد لله لم تحل هذه الكارثة حتى الآن بأي من الصحف الجادة، وإن أصابت الهزلية كالصانداي إكسبريس، والصان، ونيوز أوف ذي ورلد - رغم أن قولي هذا سيسلط علي ألسنة بنات حواء؛ لكن الساكت عن الحق شيطان أخرس).

اختيار ما ينشر يخضع لقواعد معينة يستحيل، في مدرسة فليت ستريت، أن تتغير تحت أي ظروف، أو تخضع لمزاج محرر ديسك بريد القراء (كأن يبرز شتائم قراء لكاتب عمود لا تعجبه آراؤه أو تعليقاته - رغم الغياب التام لأي شتائم أو تجريح شخصي لكاتب طوال تاريخ الصحافة البريطانية) بل لا يدخل المزاج الشخصي للمحرر في الاعتبار (بدليل تنقل محرري بريد القراء من صحافة اليمين كالديلي ميل، إلى العمل في صحافة أقصى اليسار كالغارديان، لأسباب مادية أو عائلية كتغيير محل السكن، دون أي تغير في مقاييس اختيارهم للبريد محل النشر).

بعض الخطابات قد تتعلق بتفاصيل شخصية، أو متابعات مهنية، فيحولها محرر الديسك إلى الصحافي أو الكاتب الذي تناول الموضوع ليتصل بصاحب الرسالة بشكل شخصي، ويستأذنه في متابعة الموضوع بتحقيق صحافي أو برسالة خاصة. وهذا يجرني للتعليق على مقال للدكتور مأمون فندي بعنوان «لماذا لا أرد على بريد القراء» («الشرق الأوسط» 17 يناير 2005). فلا يمكن أن يلتفت ديسك بريد القراء في أي صحيفة مررت بها في حياتي المهنية (40 عاما) إلى خطاب غير موقع باسم صاحبه الحقيقي وعنوان بيته ورقم تليفونه (وهي مهمة السكرتيرة والباحث على الديسك للاتصال به، وإذا كان اسما وهميا أو حركيا، فمصير الخطاب سلة المهملات، وإذا تضمن إهانات واقتفي أثر صاحب الرسالة تحول إلى النيابة بتهمة انتحال شخصية).

ونشر بريد القراء - مطبعيا أو إلكترونيا على الموقع - يتبع تسلسلا معينا.

أولا تعد قائمة بالرسائل المصنفة، كل منها يتابع جوهر خبر أو مقال تناولته الصحيفة (بريد القراء في التلغراف يوم الخميس الماضي تناول: تأثير مراجعة برنامج مصروفات الحكومة على البطالة؛ تأثير مراجعة برنامج الدفاع على أمن الأمة؛ قبول طالب أسود واحد فقط بين عشرات التحقوا بجامعة أكسفورد؛ عدم وضوح رؤية الكنيسة - الانجليكية - تجاه تعيين نساء كأساقفة؛ وما يعرض كديكور في الحانات حسب مزاج أصحابه، على سبيل المثال لا الحصر). أحيانا يصبح مضمون رسالة خبرا (كرسالة وقعها 30 من مديري كبريات الشركات البريطانية والعالمية حول برنامج المصروفات الحكومية وأصبح خبر الصفحة الأولى في التلغراف صباح الثلاثاء الماضي ونقلته الإذاعات والوكالات)؛ وهذا استثناء.

أما القاعدة فحضور مندوب ديسك بريد القراء اجتماع التحرير اليومي الأول (هناك ثلاثة اجتماعات يومية)، حيث يقدم نسخا لبقية الديسكات من قائمته التي تتضمن عدد الرسائل التي تتناول موضوعا معينا ونسبتها من المجموع الكلي، وداخل النسبة من كل تصنيف، يتم التقسيم العددي / النسبي إلى ثلاثة أقسام: نسبة من يدعم رأي الكاتب أو اتجاه سياسة الجهة التي تناولها الخبر، ونسبة المعارضين، والقسم الثالث هو من يقدم معلومة جديدة لم تتناولها تغطية الصحيفة أو عمود الكاتب أو معلومة إضافية تتعلق بالخبر.

ولأن الاجتماع يقدم تصورا أوليا لشكل الصحيفة الصادرة غدا، وأهم ما تتناوله، يتم اختيار المواضيع التي تناولها بريد القراء، حيث يعكس النشر نسبة الاهتمام (ولنفترض أن 74 من 200 رسالة تناولت برنامج المصروفات، و30 تناولت سياسة الدفاع، فتنشر خمس أو ست رسائل تعلق على برنامج المصروفات، مقابل ثلاث تعلق على سياسة الدفاع)، وتعكس أيضا نسبة التوافق والمعاكسة (أي لو انتقدت 35 رسالة برنامج المصروفات ودعمته 20 فتنشر رسالتان داعمتان مقابل أربع تنتقد الحكومة) أي تصبح صفحة بريد القراء مرآة صادقة بقدر الإمكان للرأي العام لقراء الصحيفة واهتمامهم بالأخبار أو القضايا المطروحة، وأيضا لاتجاهات تفكيرهم بين مؤيد ومعارض.

وبلا قواعد مهنية تنسحب على بريد القراء بالصرامة نفسها التي تحدد ملامح مهنة يتحمل ممارسوها مسؤولية تاريخية، يصبح بريد القراء، سواء على الصفحة أو الموقع، كنكتة الصعيدي الذي استقل قطار الزقازيق بدلا من قطار «قبلي» المتجه لبلدته بمديرية أسيوط نكاية في صراف التذاكر «لتطفله» بإصراره على معرفة وجهة الراكب قبل صرف التذكرة!