المستشار

TT

حضرت عام 1972، مع عشرات الصحافيين من حول العالم، قمة ليونيد بريجينيف - ريتشارد نيكسون، في موسكو. كانت الولايات المتحدة آنذاك تعيش أيامها الأخيرة قبل انهيار الفيتنام، وكان الدعم السوفياتي هو العنصر الأساسي في ذلك. ومع هذا بدا الأمر لنا مثل مهرجان بين أصدقاء قدامى. لم يبق اتفاق حول خفض التسلح إلا ووقع. ولم يبق كلام حول الانفراج والصداقة إلا وقيل. وخيّل إلينا أن العالم دخل مرحلة السلام الأبدي، في الشرق الأوسط وأفريقيا وكل مكان.

غادر نيكسون المبتهج موسكو وجاء إلى طهران الشاه. ووجد الشاه متململا مما حدث عند السوفيات، فسارع إلى طمأنته: لا تصدق كل ما تراه يا صديقي. أميركا لن تتخلى عن حلفائها. خصوصا هنا، في الشرق الأوسط، تعال نقض مضاجعها معا. عليك مساعدة الأكراد ضد البعث العراقي الذي وقع معاهدة صداقة مع السوفيات. لن نترك باب المنطقة مفتوحا.

وما إن غادر نيكسون حتى سافر رئيس الوزراء السوفياتي كوسيغين إلى بغداد: تعالوا نقض مضاجع أميركا. لن نتركها ترتاح في هذه المنطقة. يجب أن تعرف أن باب الشرق الأوسط قد أغلق! نحن، السذج، الذين كنا في موسكو في يونيو (حزيران) 1972، لم نعرف تلك الأمور إلا عندما كتبها فيما بعد، هنري كيسنجر من الجانب الأميركي ويفغيني بريماكوف من الجانب الروسي. أما هما، فكانا يعرفان، كمستشارَين، أن الابتسامات والمهرجانات في عالم السياسة لا تعني شيئا.

كم يخطئ المسؤول في حق نفسه عندما يختار مستشارا بلا خبرة سياسية، أو رجلا يؤخذ بالابتسامات والتحيات. فهو في أكثر الحالات تفاؤلا، لن يوصله إلى مكان، وفي الغالب سوف ينتقل به من مطب إلى مأزق. فقد أقيمت مهنة المستشارية من أجل أن يدرس أصحابها أبواب الخروج، لا أبواب الدخول. ويفترض في المستشار أن يدل سيده على ردود الفعل لا على الفعل، وأن يضع أمامه جميع الاحتمالات وليس فقط احتمال الفوز وتوقعات الفرح.

تزداد الحاجة إلى المستشار الخبير، أو الشديد الخبرة، عندما يكون المسؤول نفسه لم يتعرض بعد لصنوف المآزق السياسية، ولم يتعود أن السياسة مواجهة مستمرة ولو باردة. فالسياسة حركة دائمة وتغير مستديم ويستحيل أن تقبل فكرة الجمود. لذلك خيّل إلى ابن رشد أن كل الكواكب حولنا تتحرك وإلا سقطت. والحمد لله أنها لا تفعل، وإلا لما توقفت الصدامات المريعة، تماما كما هو الحال في دنيا السياسة، حيث يقوم المستشارون عادة بقياس حركة الكواكب الأخرى.