نار النجار.. ومحمد باناجه

TT

غنى أحد المطربين قائلا: «عين الحسود فيها عود يا حلاوه»، أو (يا حلاوا).

ولا أظن أن ما قاله ذلك المطرب صحيح، لأنه لو كان صحيحا لكان في عيني ليس عودا فقط، ولكن لوح خشب طوله عشرة أمتار على الأقل، وذلك من فرط حسدي الذي ليس له حدود تجاه رجل - ما شاء الله ولا (حسد) -: كامل مكمل (من مجاميعه)، والكامل وجه الله. المهم أن ذلك الرجل الرزين والوقور كثيرا ما عاب على خفتي وتسويفي، وكثيرا ما أتحفني بنصائحه التي لا تتوقف، وآخرها قبل يومين عندما قال لي: يا مشعل لا (تؤخر عمل اليوم إلى الغد)، هززت له رأسي وكأنني موافق، في الوقت الذي أخذت أردد فيه بيني وبين نفسي المثل القائل: في (العجلة الندامة)، وأنا مستعجل ليه؟! الدنيا ما هي طايرة. وهذا هو أسلوبي النموذجي في الحياة الذي أضاع علي فرصا ذهبية كثيرة، وهو الذي لم أستطع أن أتخلص منه منذ أن كنت أؤجل حل واجباتي المدرسية إلى آخر لحظة، وإلى هذا الوقت الذي أخطّ فيه لكم هذه الكلمات التي لا تسمن من جوع ولا تؤمّن من خوف.

ولكي أضرب لكم مثلا حيّا (بالصوت والصورة)، فلو أنكم تشاهدونني الآن وأنا أتقافز فوق كرسي مكتبي وكأنني أجلس على شوك قنفذ، لحكمتم علي دون أي تردد بالاختلال الذهني وليس العقلي لا سمح الله.

فوالله الذي لا إله غيره، إنه من أشق الأمور عندي أن أؤدي واجبي الكتابي بانتظام، ليس لأن ذلك صعب، أبدا، ولكن لأنني على الدوام وبكل بساطة أحب أن ألعب مع نفسي وأسليها، وأضحك عليها بافتعال مهمات أخرى تصرفني عن أداء الواجب، وهذا هو غرامي. والآن وفي هذه اللحظة، تتناهى إلى سمعي طرقات النجار من الصالون المجاور لمكتبي، حيث إنني قبل أيام قد اقتنيت أو اشتريت دولابا أثريا جميلا أردت أن أزين به صالوني، ووجدت أن الحيز الذي من المفروض أن يوضع فيه ضيق، لهذا استعنت بنجار من أجل أن يحف من أطرافه قليلا لكي يتوازن ويستقر «صح».

ووجدتها فرصة سانحة لكي (أسوّف) وأضحك على نفسي كالعادة بالانعتاق من الكتابة، وما إن أخط سطرين، حتى أهبّ واقفا لأستطلع عن حالة الدولاب، ثم أعود لمكتبي مرة أخرى.

وما أصدق على الله أن أسمع صوت المنشار وهو يقطع الخشب، حتى أرمي بالمرسمة بعيدا، وأذهب ركضا لأسأل النجّار عن سير العمل، وإذا كان يريد مساعدة.

كررت ذلك عدة مرات، إلى درجة أن الرجل قد ضاق ذرعا بتدخلاتي، فما كان منه إلا أن يرمي بما في يده متبرما، قائلا لي بالحرف الواحد بأسلوبه الحاسم: «أرجوك سيبني اشتغل، لقد دوشتني بكثرة تدخلاتك، وإذا ما هو عاجبك تعال اشتغل بدالي». قال لي ذلك وهو يمد لي المطرقة والشاكوش والمنشار، اعتذرت له و(طبطبت) على كتفه قائلا له: (حقك عليّا)، ورجعت إلى مكتبي حسيرا أسيفا. وما هي إلا دقائق حتى أخذ تليفوني المحمول يعزف برنينه المزعج، وما أن صرخت قائلا: (الوووو)، حتى تناهى إلى سمعي صوت الأستاذ محمد باناجه، وهو المكلّف بملاحقتي لإتمام مقالاتي، مثلما كان يلاحقني المدرس لإتمام واجباتي المدرسية، قائلا لي بكل أدب يحسد عليه: «لقد تأخرت يا أستاذ بإرسال المقال اليوم».

عندها سألته: يعني يبقالي كم؟! قال: الآن، الآن ودون أي تأخير لو سمحت.

فكّرت بالذهاب لأستطلع عن حال الدولاب ولكنني بصراحة خفت، وأصبحت بين نارين (نار النجار ونار الأستاذ محمد)، متذكرا أغنية مطربة دلوعة كانت تصدح بصوتها المبحوح قائلة: «نارك ولا جنة هلي»، أي أهلي.

ووجدت أن نار النجار أرحم، لهذا أكملت صاغرا مقالي (الخنفشاري) هذا الذي تقرأونه الآن، فلا تؤاخذوني فمحسوبكم (مضيع مفاتيحه)، ويا زين العقل زيناه.

[email protected]