على جسر الأحزان

TT

فينيسيا مدينة مليئة بالجسور بقدر ما فيها من قنوات ومياه. وجسورها محدبة لتسمح بمرور زوارق الجندول من تحتها. من أشهرها «جسر الأحزان» شرقي ساحة سان مارك الشهيرة. سألتني زميلة من رفاق السفر، لماذا أعطوه هذا الاسم وكل ما حوله يبشر بالخير والجمال؟

- سموه بهذا الاسم يا سيدتي لأن النساء الخائبات في حبهن أو اللاتي اكتشفن خيانات أزواجهن اعتدن على المجيء لهذا الجسر للانتحار برمي أنفسهن من قمته إلى البحر.

- يا للسخافة! كان الأولى بهن أن ينتحرن عندما يواجهن فواتير المعيشة في هذا البلد. أخذوا مني عشرة يوروات عن ساندويتش جبن.

- وأنا دفعت ستة يوروات عن موسيقى لم أسمعها.

وكنت سعيدا في ذلك. فعندما نزلت من الجندول طلبوا مني عشرين يورو ثمن الغناء الذي غناه الجندوليري (سائق الزورق). دفعتها صاغرا، وكان بودي أن أرفع الأجرة إلى أربعين يورو ثمنا لسكوت الجندوليري عن غنائه «الوحشي».

ميدان سان مارك الغاص بالمقاهي والمطاعم والدكاكين الترفيهية والتحفية والتذكارية ينطبق عليه وصف المتنبي لشعب بوان في إيران:

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

الترجمة في كل مكان، وتسمع فيها الشروح بكل اللغات، ربما باستثناء اللغة العربية، فالعرب لا يعنيهم ما يرونه أمامهم. وهل من عجب؟ بعضهم لا يرون الظلم والفساد الجاثم أمامهم على صدور شعوبهم، فلم يعبأون بعمارة الساحة أو ساعتها التاريخية أو أسراب حمامها وطيورها؟ تجد في ميدان سان مارك وطرق فينيسيا وقنواتها اللوحات والتعليمات بشتى اللغات؛ إيطالية وفرنسية وألمانية ويابانية وصينية، ولكن لا تجد العربية بينها. بيد أنني عثرت على لوحة واحدة تحمل كلمة باللغة العربية تقول «مركز الشرطة». علقوها على أبواب مكتب ضابط الكربناري. هذا كل ما يحتاجه السائح العربي والمواطنون العرب؛ مركز الشرطة.. إنه معقلهم إذا أجرموا وملاذهم كلما ابتلوا بجريمة وسرقت من يدهم ساعاتهم «الروليكس» ومن أعناقهم قلائد الماس واللؤلؤ أو نسوا في الجندول محافظهم المحملة بالدولارات.

مركز الشرطة! منه خارجون وإنا إليه لراجعون.. نعرفه ونعرف مكانه أكثر مما نعرف مكان القبلة.

فينيسيا جنة الهدايا، لهذا يقصدها السياح العرب؛ يتبضعون منها بما يتباهون به عند عودتهم.. «انظر أستاذ؛ هذه الساعة (الكوكو) اشتريتها من فينيسيا». ثم يعطيك الرقم. اشتريتها بخمسمائة يورو. وعليك أن تهز رأسك إعجابا. أنا أيضا رجعت من فينيسيا بهدية لي. وضعتها في مكتبي.. تمثال مهرج يضرب على «دربوكة» (دنبك). يظهر أن الأوروبيين في القرون الوسطى كانوا يشاركوننا في استعمال «الدربوكة» في موسيقاهم. هل أخذناها منهم أم أخذوها منا؟ وضممت التمثال إلى مجموعتي الثمينة من تماثيل «المهرج». هذا ما نحن عليه؛ أمة تعيش في التهريج تحكمها شلة من المهرجين تدعمهم فرق من المطبلين على «دربوكة» الصحافة العربية.