«جهادية» أوباما لاسترداد المبادرة من نجاد ونتنياهو

TT

اثنان لا يصلحان للعمل السياسي. أولهما رجل الدين. إذا كان صادقا فعليه أن يغادر السياسة. الدين منظومة ثوابت مقدسة. السياسة منظومة من المتغيرات الفوضوية. السياسة فن المساومة على التسوية. السياسة مناورة قد تصل إلى حدود المؤامرة.

لا مساومة في الدين. إما أن تقبله كله. وإما أن تغادره. من هنا دوغمائية رجل الدين الذي يحترف السياسة. دشن صدام حربا. واصلها الخميني ثماني سنوات. أفنى الخميني المعصوم أجيالا شبابية في حرب مهلكة. ماتوا في حقول ألغامها، وعلى أسلاكها الشائكة. عندما نصحه رجل دين مساوم (رفسنجاني) بوقفها... وإلا فالهزيمة محتمة. رضخ الخميني، لكن: «وقف الحرب بمثابة تجرع للسم». لم يتحمل الخميني الواقع الميداني المتغير. مات «مسموما» بالسلم، بعد سنة واحدة من وقف الحرب.

لا قداسة. لا معصومية لرجل دين يعمل في السياسة. حسن حزب الله يسوف. يماطل السياسة. ينزه رجال حزبه عن التورط في اغتيال سياسي. السيد حسن لا يساوم. يخلط الدين بالسياسة. السياسة عنده أيضا ثوابت. لا يقبل أن يكون متهما، حتى لو أشعلت «ثوابت» نفيه وإنكاره لبنان فتنا وحروبا.

المثقف هو الآخر الذي لا يصلح للسياسة. أقول دائما إن السياسي ليس بالضرورة أن يكون مثقفا. الثقافة تصعد بالإنسان العادي إلى مرتبة المثالية. الثقافة تفترض في المثقف أن يكون صادقا مع نفسه. مع أفكاره. مع مواقفه ومثله، قبل أن يكون صادقا مع غيره.

من هنا شقاء المثقف مع مثالية إنسانية لا تتوفر في السياسة. من هنا فشل المثقفون العرب (الشهبندر. عفلق. البيطار. جمال أتاسي. عبد الرحمن البزاز. سعدون حمادي. عبد الخالق السامرائي. بن بركة. سيد قطب. هيكل. مزالي...) في العمل السياسي. فيما نجح ساسة وعسكر بلا ثقافة. كانوا المحترفين الواقعيين الذين لا تردعهم مثالية الثقافة وإنسانيتها.

في الحكم، بدا باراك أوباما مثقفا بليغا في خطابه. مترددا. بطيئا في قراره. وحتى إنجازاته (إصلاح التعليم. توسيع الرعاية الصحية. ضبط الأسواق والمصارف المالية) لم تكن مقبولة شعبيا! فهي إما ضئيلة. وإما موحية بالتواكل والاعتماد على الدولة القوية المانحة، في بلد يقدس ثقافة المبادرة الفردية، والكدح في العمل.

ما زال المثقف أوباما لغزا. اليمين المحافظ يعتبره ليبراليا. اليمين العنصري والديني يعيره بلونه وإسلام أبيه (حسين). الليبراليون يشتبهون بكونه اشتراكيا، حيث الاشتراكية في أميركا سبة تستوجب نفي الاشتراكي، والمثقف الماركسي.

وهكذا، راح معاونو الرئيس المثقف ومستشاروه يتخلون عنه. ينسحبون منه. وفي مقدمتهم يهود الإدارة. وحتى وزير دفاعه روبرت غيتس. وهيلاري كلينتون وزيرة خارجيته أعربا، سلفا، عن رغبتهما في عدم البقاء في المنصب طيلة مدة ولايته. هيلاري ربما تعود إلى منافسته على الرئاسة، مستغلة ضعفه. منتهزة فرصتها الأخيرة. قبل أن يسبقها قطار العمر.

حزم المثقف أوباما ما تبقى من عزمه وإرادته وشبابه. عاد إلى الميدان وحيدا. محاولا إنقاذ حزبه ومرشحيه من كارثة انتخابية. ليس لي هنا سوى أن أدعو العرب، وفي مقدمتهم أصحاب القرار، إلى مراقبة يوم الثلاثاء المقبل 2 نوفمبر (تشرين الثاني) جيدا. فهو المفصل الانتخابي أو المنعطف أمام رئيس مهدد بخسارة أغلبيته في مجلس الكونغرس. وبشل إدارته. مع احتمال عدم التجديد له في نوفمبر 2012. وعودة الجمهوريين إلى الحكم، بكل ما يترتب عن ذلك من متغيرات أميركية. دولية. عربية.

تحدثت باختصار عن محنة المثقف أوباما في بلده أميركا. سأتوجه رأسا إلى الحديث عن محاولة أوباما استعادة زمام المبادرة، من إيران نجاد. ومن إسرائيل نتنياهو. مكتفيا بالإشارة إلى أوباما الدولي. أوباما المثقف الموافق على عالم متعدد الأقطاب. حالم بعالم خال من الأسلحة النووية.

في التمرد على إدارة أميركية ضعيفة. مترددة. بل غير مدركة للحقائق في المنطقة العربية، تبدو حكومة نتنياهو/ ليبرمان غير معنية بسلام حقيقي وعادل مع العرب.

لتجميد الاستيطان شهرين، أملا وحلما بالتوصل خلالهما لاتفاق على رسم الحدود، يبتز السياسيان المحترفان المثقف أوباما، في مطالب مثيرة للضحك والسخرية من غباء أميركا، أو استغبائها للعرب: احتلال عسكري لحدود الضفة مع الأردن. ضمان عدم عودة إسرائيل لحدود 1967. الاعتراف بيهودية الدولة. إلزام أميركا بفرض هذا الاعتراف على الفلسطينيين، لحرمانهم من حق العودة، وربما لترحيل عرب 48 من إسرائيل. استمرار تزويد إسرائيل بكل ما يضمن لها التفوق العسكري الاستراتيجي، في أي مواجهة ساخنة مع العرب، بما في ذلك طائرات إف 35 المخترقة للأنظمة الدفاعية الجوية.

وهكذا أيضا، يبدو مسعى أوباما لهدهدة غلواء إسرائيل غير جدي. أميركا تلوح باستخدام الفيتو ضد أي محاولة عربية، لانتزاع اعتراف بدولة فلسطينية من الأمم المتحدة، فيما يهدد نتنياهو عباس بضم نصف الضفة إلى إسرائيل. إذا كانت هناك رغبة حقيقية في إلزام إسرائيل بالسلام، فقد كان بإمكان أوباما في ذروة قوته وشعبيته (انهارت من 62 إلى 45 في المائة) أن يسحب من أدراج مكتبه مشروعا أميركيا لفرض الدولة الفلسطينية.

الموقف الأميركي المتخاذل. الابتزاز الإسرائيلي. الانقسام الفلسطيني. العبثية التفاوضية. ضعف الموقف العربي... كل ذلك يشجع إيران نجاد على اختراق العرب على كل الجبهات. إدارة أوباما، إلى الآن، لم تعرف كيف تستغل تناقضات المشروع الإيراني، لفضحه أمام جمهور عربي مخدوع بدعايته. فهو طائفي في العراق. مذهبي. «إلهي» في لبنان. عروبي. إسلامي في الضفة وغزة!

وثائق «ويكيليكس» الأميركية فرصة ذهبية للنظام العربي لفضح إدارة المالكي لمعتقلات التعذيب والتصفية السرية. المالكي نفسه الذي يطوف العالم العربي، شاريا الصمت العربي بعرض إغراء الاستثمار في مشاريع التنمية والإعمار. فرصة كبيرة للبنانيين لفضح مشاركة «مجاهدي» حزب الله في تدريب «مجاهدي» التنظيمات الشيعية العراقية في لبنان وإيران، تحت إشراف «الحرس الثوري»، على زرع ألغام التفجير. وعمليات الاغتيال والتصفية لعروبة العراق والسنة.

فقد الساحر سحره. فقد المثقف منطقه. ترك السياسي الهاوي السياسيين المحترفين نجاد ونتنياهو، يؤججان ثقافة الضد العربية لكل ما هو أميركي. انتقل العرب من «ثقافة الرفض» لإسرائيل. إلى «ثقافة الضد» لأميركا/ أوباما العاجزة أمام إسرائيل.

من «جاهلية» بوش. إلى «جهادية أوباما»! باسم «مكافحة الإرهاب»، شن بوش حربا على العرب والمسلمين. سلم العراق إلى إيران. صالح أوباما العرب والإسلام. ببلاغة الكلمة. وعبقرية الخطاب، ليستأنف حروب بوش على المسلمين! صعد أوباما الحرب في باكستان. أفغانستان. اليمن. الصومال. أخفق. قرر الانسحاب. غدا، قد يعود الجمهوريون إلى الحكم. يسترضون إسرائيل. يواصلون حروب بوش وأوباما على العرب والمسلمين.