العرب يحاربون في القمر!

TT

يبدو أننا على وشك الدخول في «حرب أقمار» عربية، بعد حرب النجوم التي كان قائدها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي.

الفرق أن حرب أميركا والاتحاد السوفياتي، في الفضاء، كانت ذات أسباب استراتيجية وبأدوات علمية وعسكرية، للسيطرة على أذن الفضاء وعينه وعضلاته! بينما حرب الأقمار الصناعية هي حرب عربية باردة بين العرب أنفسهم، وبعض جيران العرب، والغرض منها السيطرة على آذان الجماهير الممتدة من المحيط إلى الخليج.

لم يكد وزير الإعلام المصري أنس الفقي يعلن عن إغلاق الشركة المصرية المالكة لقمر «نايل سات» لعدة قنوات دينية، حتى ثارت ثائرة جمهور ونجوم هذه القنوات.

الإغلاق تم، بحسب السلطات المصرية، لأن هذه القنوات لم تلتزم الشروط الموضوعة، وتسببت في إحداث إثارة ضارة، إضافة طبعا لقنوات أخرى تمارس الشعوذة أو الطب المزيف أو الرقية الفضائية، مع قنوات دردشة «إباحية» - حسب الوصف الذي تم تداوله.

بسبب حالة العداء المستفحل بين المعارضة المصرية والسلطات، فُسِّر هذا القرار بشكل سياسي محض، خاصة ونحن على أبواب انتخابات نيابية في بلاد الكنانة، وأُدرِج هذا القرار، حسب تأويل المعارضة في إطار «تكميم الأفواه» ضد النقد، على الرغم من أن هذه الأفواه لم تُكمَّم في صحف مصرية كثيرة مثل: «الشروق»، و«المصري اليوم»، و«الوفد».. وغيرها من الصحف التي تنشر، يوميا، مقالات ومواد صحافية معارضة وناقدة للنظام ولأصحاب السلطة بداية بالرئيس حسني مبارك.. فضلا عن غيره.

ليس الغرض هنا نفي انتقادات المنتقدين للسلطة في مصر، ففيها الصحيح، وفيها الباطل أيضا، لكن المراد قوله إنه لو كان سبب القرار «محض» انزعاج من نقد السلطات المصرية، لكان الأولى بذلك إسكات «كل» أصوات وصحف المعارضة، وهذا ما لم يحصل، إذن لا بد من التفكير بأن ثمة «جديدا» استدعى هذا التدخل الحازم من السلطة المصرية إزاء هذه القنوات.

أمر آخر، أغلب القنوات الدينية الممنوعة ذات طابع ديني مباشر، مؤخرا دخلت على خط المساجلات والنقائض الدينية بين الشيعة والسنة، في جو التوتر العام بين العرب وإيران، ثم كانت، وهذا ما قاله لي صحافي مصري «محايد»، الطامة الكبرى والجرس الخطير حينما أدخل السجال القبطي - الإسلامي في مصر دوامة هذه القنوات المثيرة، وأججت القنوات ملف الفتنة الطائفية وإيقاع الشرخ بين «شطري الأمة» الأقباط والمسلمين، هنا ألقت السلطات بثقلها بعدما لاحظت، والحديث ما زال لصديقي الصحافي المتابع، أن الفتنة هذه المرة أخذت بعدا جديدا وزخما خطيرا بفعل تناول هذه الفضائيات الفاقد لأي حساسية تجاه فكرة السلم الأهلي المصري.

بالنسبة للدولة المصرية، أي دولة سواء حكمها الرئيس حسني مبارك أو غيره، يعتبر موضوع الفتنة بين الأقباط والمسلمين خطا أحمر لا يجوز لأي كان وبأي ذريعة أن يمسه.

القصة مختلفة هذه المرة، وهي ليست محكومة بمعارك المعارضة المصرية تجاه الحكومة، القصة أكبر من المعارضة ومن السلطة، القصة هي مصر نفسها!

الأمر ليس مقتصرا على الساحة المصرية، لأن الداء عم الجميع، وجراثيم الفضاء لا تفرق بين شرق وغرب، فأي قناة تحجز لها مساحة على الـ«نايل سات» تتوجه إلى كل مَن يستقبل على جهازه الخاص قنوات هذا القمر، ونعرف كيف أن شعوبنا، بل جل شعوب الأرض، تحولت إلى كائنات تلفزيونية، فمن يضمن ألا يؤثر كلام هذا الشيخ السني أو المعمم الشيعي، الحافل بالإثارة والتحريض، في هذا المناخ المريض، في مشاهدين آخرين في مجتمعات أخرى لديها هذا التنوع الطائفي؟

نجوم التحريض الديني، ربما لا يدركون، أو لا يرون أن كلامهم من قبيل التحريض بل هو قول الحق! ولأنهم لا يحسنون السباحة إلا في مياه التعبئة الدينية والطائفية، فوجود أزمة هو المطلوب بالنسبة لهم، كيف يستطيع شخص مثل الشيعي (ياسر الحبيب) أو السني (أبو المنتصر البلوشي) أن يملأ ساعات البث بحديث متواصل ما لم يكن هناك سبب للحديث يدعوه لاستمرار شيطنة الآخر وتكفيره، وهل يحسن أمثال هؤلاء غير هذا الحديث؟!

يبقى هنا سؤالان:

هل نعتبر بهذا التأييد لفعل السلطات المصرية من أنصار قمع الرأي الآخر وإلغاء التعددية؟

وهل يكفي ما قامت به الشركة المصرية المالكة للقمر من إلغاء هذه القنوات وتحذير الأخريات؟

بالنسبة للسؤال الأول فثمة نقاش مستفيض، لا يمكن اختزاله هنا، وهو نقاش ينصبُّ على الاختيار بين أولوية الاستقرار أو الحرية العامة؟ أيهما أولى، أن يكون كل إنسان حرا في قول ما يشاء تجاه من يشاء حتى لو تسبب هذا في حصول فتن كما فعل البعض في الكويت تجاه قناة فضائية؟! أو تكون الأولوية لحفظ الاستقرار حتى ولو تم الإضرار بحرية الرأي والتعبير؟

سؤال صعب، والاختيار أصعب، فحرية التعبير هي معنى كرامة الإنسان، كما قال نزار قباني:

أنا حريتي فإن سرقوها

تسقط الأرض كلها والسماء!

لكن، لا نريد أن نقع في هذه الحدية النزارية «الشاعرية»، يمكن السير بين السماء والأرض وتنفُّس الهواء دون أن تسقط علينا السماء. بكلمة أخرى، الإغلاق ليس هو الحل المثالي، قد يكون حلا سهلا، لكن يجب أن لا يكون هو الأساس، فتجربتنا العربية - علاقة السلطة بحرية التعبير - تجربة سيئة، الأصل فيها سوء الظن من الطرفين، لذا يجب المسارعة بوضع إطار قانوني يضبط البث الفضائي والإعلامي عموما، فقد يتضرر من الإعلام الخاص أو العام أفرادٌ ومؤسسات لا علاقة لهم بالسلطة، أو قد يتسبب هذا الإعلام في توتير السلم الأهلي، هي مهمة صعبة، كيف يمكن تشريع قوانين توفّق بين الحفاظ على مبدأ حرية الرأي والتعبير، وفي الوقت نفسه صيانة حقوق الأفراد والجهات وحفظ السلم الأهلي.. هذا هو التحدي الكبير.

السؤال الثاني: هل إلغاء هذه القنوات من القمر المصري كاف؟!

الجواب: لا، فقد أخبرنا موقع «الجزيرة نت» مؤخرا أن المجلس الأعلى للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات القطري عقد اتفاقية شراكة لإطلاق قمر صناعي يحمل اسم «سهيل» مع شركة «يوتل سات» الفرنسية للاتصالات، في إطار صفقة بقيمة 300 مليون دولار. ومن المقرر أن يدخل القمر مرحلة التشغيل أواخر عام 2012 على أن يقوم بتغطية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كما قرأنا، في صحيفة «الشرق الأوسط»، أن إسلاميين مصريين أعلنوا عن مبادرة لإطلاق «قمر صناعي إسلامي» ردا على قرار السلطات المصرية إغلاق عدة قنوات دينية، وأكد منتصر الزيات، محامي الجماعات الإسلامية، أنه هو صاحب تلك المبادرة، هربا من رقابة الدول العربية.

كيف الخلاص من هذا المأزق غدا إذا تناسلت هذه القنوات بالعشرات والمئات واحتشد الفضاء بالتحريض بين الشيعة والسنة والمسيحيين - فكل فريق متطرف من هؤلاء لديه منابره الضارة التي تستحق الإغلاق - كيف سنتنفس؟!

الرهان على الوعي لدى المتلقي رهان بطيء ونتائجه غير مؤكدة، يبقى الرهان على أمرين: إما اقتراح حل ملزم للجميع «لا تفنى فيه الغنم ولا يُقتَل الذئب»، أو أن نراهن على يقظة ضمائر أصحاب هذه الأقمار والتسامي على مكائد السياسة وغرائز الانتقام لصالح السلم العام... أو أن تشرق شمس العقل لتكسف هذه الأقمار المزدحمة في ليل القلق، لتمحو آية النهار آية الليل..

[email protected]