حينما يصبح المتهم جنيا!

TT

تجبرك بعض الأحداث على الخروج من صمتك الاضطراري لتكتب، لكي لا يؤدي بك الكبت إلى المزيد من التردي، كالقضية التي تثيرها الصحافة السعودية هذه الأيام حول القاضي في المدينة المنورة، الذي يقال إنه حوّل عقارات وأراضي ومخططات بأسماء أشخاص ينتمون إلى عصابة تحت تأثير السحر، الذي قام به وسيط هارب من العدالة، وتطوع أحد الرقاة الشرعيين بتبرئة القاضي بادعائه استنطاق «الجني» الذي تلبس القاضي المسحور، خلال جلسة رقية، بحضور أعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبحسب الراقي فإن رئيس المحكمة طلب منه إعداد خطاب يتضمن المعلومات التي أوردها الجني لدى استنطاقه!

وأنا هنا لا أتهم القاضي بالفساد، ولا أحشر أنفي في قضية لم تزل منظورة أمام القضاء، بل أدعو الله صادقا أن يكون بريئا، ولديه ما يدعم براءته خارج هذا «السيناريو» السخيف، الذي تبناه الراقي الشرعي، ليجعل فضيحتنا بجلاجل أمام عيون العالم وأسماعه، فهذه المسرحية الهزلية «الغرائبية» كانت محط اهتمام الإعلام الداخلي والخارجي، ضمن تصنيف «صدّق أو لا تصدّق»، وإن كان من الأَولى - بطبيعة الحال - أن لا تصدّق.

وأذكر في عقد التسعينات أن زميلا صحافيا نشر في إحدى المجلات حوارا صحافيا مطولا بعنوان «حوار مع جنّي»، فأحد أدعياء الرقية أحضر شخصا ممن لديه القابلية للاستهواء، وجعل الزميل الصحافي يحاوره بزعم أنه يحاور الجني في داخله، ولكون الزميل ينتمي إلى الصحافة الفنية، راح يشبع «الجني» أسئلة عن فنون الجن وجنونهم، وكانت الإجابات على درجة من السذاجة، تتناسب مع المستوى الثقافي والعقلي للشخص الذي يتم استجوابه، والذي يتلبسه الجني في تلك اللحظات بحسب مدعي الرقية، وعقب نشر اللقاء في المجلة جاء الرجل يعتب على أن بعض الذين طالعوا المجلة تعرفوا على بعض ملامحه التي لم تتمكن المجلة من إخفائها كليا، واعترف لي الرجل يومها بما يجعلني على يقين بأن العملية كلها كانت مجرد هيمنة على رجل مسلوب الإرادة.

إن ما يحدث اليوم هو نتاج طبيعي لتفشي ثقافة الجن والعفاريت، وتكاثر حوانيت أدعياء الرقية، وتعليق كل همومنا الحياتية على مشجب السحر والجن والعفاريت، ولا يذكر التاريخ أن هذه الثقافة قد تفشت في أي عصر من عصور الإسلام بقدر ما تفشت في عصرنا، فالرؤية الدينية للجن والعلاج بالرقية معروفة، وموجودة، ولكن المبالغات بشأنها هي في الغالب من نتاج عصرنا، وثمرة تكريس البعض لها عبر بعض الفضائيات، والرسائل الهاتفية، ومنتديات الإنترنت، وهذه الثقافة هي المسؤولة عن تحويل الكثير من الأمراض النفسية من أمراض عارضة إلى أمراض مستديمة، حينما يلجأ بعض مرضى الفصام إلى أدعياء الرقية، فيضيعون الكثير من الوقت في مسلسلات الجن وكيفية إخراجهم، وحينما يلجأون إلى الطب النفسي بعد تلكؤ يكون المرض قد دخل مراحل أكثر خطورة.

كفانا الله وإياكم شرور الإنس والجن.

[email protected]