قمة الكويت التركية الخليجية.. أنجز الإقلاع وبدأ التحليق

TT

أضاع جحا تركيا (نصر الدين خوجة) مفتاح بيته في الزريبة وهو يقدم علفا للخراف، فذهب يبحث عنه في السوق، وفي وضح النهار. ولما سئل لم لا يبحث عنه حيث فقده؟ قال: المكان هناك ظلمة وهنا نور وأنا أقوم بذلك فقط لمجرد رفع العتب. حكاية الخوجة هذه كان ينطبق عليها حتى الأمس القريب مسار العلاقات العربية - التركية؛ مجرد حوارات ولقاءات رفع عتب كلاسيكية، لتجنب غضب الشارع في الجانبين والظهور بمظهر من يفعل شيئا. وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة قبل 8 أعوام كان وسيلة لمراجعة المواقف والحسابات في الطرفين: تركيا التي أهملت الشرق وتعمدت نسيانه لعقود طويلة لصالح الغرب، تريد العودة إلى الجذور والخروج من حالة مصطنعة فرضها بعض العقول والذهنيات المتصلبة، والعالمان العربي والإسلامي ينتظران هذه اللحظة لإعلان تدشين مرحلة جديدة تؤسس لمسار انفتاحي تقاربي يريده الجميع، ليكون جزءا من سياسة حماية المصالح وإبعاد أجواء الشحن والتوتر عن المنطقة والذود عما تبقى لنا من فرص وهي ليست كثيرة.

انطلاقة الحوار التركي - الخليجي كانت قبل 6 سنوات في لقاء إسطنبول الموسع ثم كرت السبحة ليتضاعف عدد العقود والاتفاقيات التجارية والإنمائية ليحقق الحوار قفزة استراتيجية في قمة جدة التي رسمت قبل عامين البرامج والسياسات وخطة العمل والتحرك، لتعقبها قمة إسطنبول العام الماضي التي حملت أكثر من رسالة إلى أكثر من جهة مفادها: لا استبعاد إلا للراغبين في استبعاد أنفسهم عن هذا الحوار. الهدف ليس توسيع رقعة الاستقطابات والتكتلات ونشر المزيد من حالات الاصطفاف والشرذمة، بل تبني لغة الانفتاح والحوار وإزالة الحواجز والجدران التي لا تحتاج المنطقة إلى المزيد منها.

قمة الكويت جاءت بمثابة الترجمة العملية ومركز تأطير هذا الحوار التركي – الخليجي، الذي نعرف أنه لن يكون بعقلية ما قبل 20 عاما، معادلة «المياه التركية مقابل النفط العربي» التي ولى عليها الزمن، فرقعة الانفتاح والتعاون تتميز بتنوعها وجمعها لفرص كثيرة لا تعد ولا تحصى. قرارات لإنشاء مراكز وفرق عمل مشتركة دائمة تؤسس لمنظومة إقليمية تعكس الرغبة في الالتقاء والتوحد حول أكثر من قاسم مشترك تاريخي وسياسي واجتماعي.

وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو حدثنا مرة عن ضرورة تصفير المشكلات والأزمات، والقيادات الخليجية نبهتنا إلى أن العلاقات بين الدول ليست بالضرورة «يا أبيض يا أسود»، هناك أيضا اللون الرمادي، الذي قد يجمعنا حول الكثير من المسائل والقضايا.

لقاء الكويت أعلن رفضه القاطع للغة الاستقواء والاستعلاء والتكبر، وذكرنا أن هناك إسرائيل التي ما زالت تحتل الأراضي وترفض كل المحاولات الإقليمية والدولية لإلزامها بتنفيذ الاتفاقيات والتعهدات التي قطعتها، وأن خطط المواجهة لن تكون عبر تصفية الحسابات بطريقة التفافية تقوم على أسلوب استعراض العضلات أو التمسك بالبقاء وراء المتاريس أو إقامة متاريس وأكياس رمل جديدة يراهن البعض على أنها ستكون الطريق الأقصر لإقناع الآخرين وفرض الحلول.

أنقرة تقول إن تحركها هذا لا يمنعها من المضي في تحالفاتها القديمة مع الغرب، لكنها تقدم لنا هذه المرة قراءة جديدة ولغة مختلفة عن قراءات العقود السابقة التي تجاهلت خلالها مصالحها المميزة والمستقلة عن الغرب في بقعة الشرق، بكل ما يجمعها بها من خصائص ومعايير جغرافية وتاريخية وثقافية مشتركة.

أنقرة تتعلم من أخطائها وتتخلى سريعا عن سلبيات علاقاتها مع العالم العربي، وهي بدأت، وفي وقت قصير، تجمع ثمار مراجعة مواقفها وسياساتها هذه. لكن المفرح هنا أن دولا عربية كثيرة استفادت هي الأخرى من تحليل ودراسة التحولات القائمة في السياسة التركية الإقليمية، وبدأت ترد التحية بأحسن منها، وكانت دول الخليج العربي بين السباقين في ذلك.

تركيا تصر على أن أمن الخليج واستقراره باتا في قلب البعد الاستراتيجي لمصالحها وأمنها الإقليمي، ودول الخليج تقود وتدعم كل خطوة تقاربية استراتيجية مع تركيا، تعكس مدى الرغبة في الإقلاع والتحليق بهذا التعاون الشفاف والمطاطي الجاهز للتوسع وفتح الأبواب أمام الراغبين في تبني أفكاره وما يدافع عنه. تركيا تعود إلى الخليج بقوة وزخم بعد مرور أكثر من قرن على مغادرتها في أجواء ملبدة بالسحب والغيوم الداكنة واللقاء الاستراتيجي الثالث في الكويت يجمع الطموح التركي في التمدد والانتشار، والرغبة الخليجية في تحقيق التوازن في سياسته الإقليمية، والبعض يتفرج بقلق أو حيرة أو غيظ.