الديمقراطية ضد التنمية.. الكويت ودبي!

TT

هناك عدد متزايد من الكتابات في الخليج اليوم تتحدث عن علاقة الديمقراطية بالتنمية، والمقارنة دائما تذهب لاستحضار مثال، دبي والكويت. في الثانية هناك مؤسسة ديمقراطية، أصبح لها من العمر أكثر من 50 عاما، وهناك أيضا خطط طموحة للتنمية، بلغت قيمتها المادية المرصودة، أكثر من 37 بليون دينار، وهو مبلغ مهول إن أخذنا رقعة الجغرافيا وحجم السكان، إلا أن الخطة والطموحات التي تصاحبها تدخل في دهاليز المشاغبات السياسية إلى حد التعطيل والتأجيل. أما الأولى دبي، فتتمتع بمستوى عال من التطور وتشهد تنمية متسارعة حتى أصبحت مدينة معولمة تجذب رؤوس أموال من أركان الأرض الأربعة.

إذا كانت هذه المقارنة قريبة منا - وقبل أن نصل إلى قناعة نهائية في أي التجربتين الأكثر نفعا للإنسان - وهي تخاطر، أي المقارنة، بأن تمس «الذات» قبل «الموضوع» فتنحرف النتائج. علينا - من أجل التمرين الذهني - أن نذهب إلى مقارنة بعيدة عنا بعض الشيء، حتى نصل إلى قناعة فيما إذا كانت الديمقراطية، على إطلاقها، لها علاقة طردية بالتنمية أو علاقة عكسية.

في الذهن المقارنة بين الصين، التي تخضع لحكم مركزي، وبين الهند التي تخضع لحكم ديمقراطي إلى حد. في الحالتين هناك تنمية لا تنكر، إلا أن نمو الصين الاقتصادي مشاهد. فيتوقع الاقتصاديون هذا العام أن ينمو الاقتصاد الصيني بنحو 8. 5% وهي نسبة تفوق معظم الدول الصناعية بكثير، أما الهند فإن نموها أقل من ذلك. تذهب المقارنة إلى القول بأن الصين نظمت في العام قبل الماضي الأولمبياد الدولي، وكان التنظيم دقيقا ومتقنا، وشهد العالم مدى قدرة الصين على التنظيم والمتابعة، وقبل أشهر نظمت الهند دورة الألعاب الرياضية بين دول الكومنولث، فكانت فضيحة انتقد قصورها على مستوى العالم، في التأخير وعدم الدقة، بل وانهيار بعض المنشآت الرياضية قبل أيام من افتتاحها. في هذه المقارنة نرى الصين عندما تقرر أن تبني جسرا أو مطارا أو قرية، فهي تقوم بذلك بسرعة وإتقان، أما في الهند، فإن القطاع العام على الأقل، يئن من التأخير والبيروقراطية والعجز نتيجة المماحكات السياسية والمصالح المتعارضة. قد يكون في تلك المقارنة بعض التضخيم أو عدم الموضوعية، إلا أنها تطرح علينا أسئلة مركزية لا يجوز إبعاد النظر عنها، كما هي الأسئلة المركزية في المقارنة بين تجربة الكويت وتجربة دبي، على سبيل المثال لا الحصر، أما إذا أدخلنا لبنان، وهي ديمقراطية أخرى عرجاء، فإن الأمر يخرج عن المقارنة المنطقية إلى القول النهائي، وهو أن ديمقراطية لبنان مقعدة بالمطلق لأي عمل تنموي.

المقارنات قد لا تكون دقيقة كل الدقة، فهناك ظروف اجتماعية وبيئية وحضارية تتحكم في مدخلات كل من التنمية والديمقراطية في كل مجتمع على حدة. إلا أن تفحص الحالة الكويتية من الداخل قد يوصلنا إلى قناعة ما.

في الحالة الكويتية، الممارسات الديمقراطية، ولا أقصد فكرة الديمقراطية بالمطلق، هي معطلة لا شك للتنمية من زوايا شتى.

أولا: الديمقراطية تحتاج إلى تخفيف ما أمكن من البيروقراطية الثقيلة، والممارسة الديمقراطية في الكويت تضيف إلى البيروقراطية أطنانا من الأثقال، فلكل حدث قانون، ولكل قانون تفاصيل، فيه من الممانعة أكثر مما فيه من السماح، حتى كاد القانون في الكويت يصبح شخصيا بامتياز، وأثقلت البيروقراطية بقوانين تكاد تكون مانعة لأي قبول للمبادرات الحاثة على التنمية. وثانيا: أن ممارسة الانتخابات في الكويت، على مر الأيام والسنين، زكت الولاءات الطائفية والقبلية والمناطقية، حتى عادت وكأنها حرب أهلية في موسم الانتخابات، وحرب خفيه بعدها. هذه التزكية أغرت البعض إلى غمسها في البيروقراطية. ثالثا، فما يكاد منصب مرموق في الإدارة الحكومية يفرغ، حتى تراكض القوم لترشيح الموالين من الأصحاب أو الأقرباء، دون الأخذ بعين الاعتبار الكفاءة والقدرة أو المؤهلات التي يتطلبها ذلك المنصب، حتى أصبحت الدولة تتردد في إخلاء منصب ما، لتمنع هذا التزاحم المرضي، ويبقى الحال في الإدارة على ما هو عليه.

رابعا: حيث إن زرع الأعوان في الأماكن الحاكمة في البيروقراطية، يعني، ضمن ما يعنيه، ضمان خدمة مستقبلية للأعوان والأنصار، دون حاجة إلى استجداء أحد، ودون المرور بالقانون، ويصبح الاعتداء عليه هو الأصل والتقيد به هو الاستثناء.

على الرغم من أن الطائفية مرض أصاب ويصيب البلدان المجاورة بشكل وبائي، فإنه في مجتمع كالكويت صغير وغني في نفس الوقت، تبدو الظاهرة تابعة للممارسات الديمقراطية السلبية، أكثر منها زراعة قديمة في المجتمع.

تزكية الولاءات للهويات الفرعية، أضعفت من الولاء للهوية الأوسع وهي المواطنة في الدولة، حتى غدت الخدمة الطبيعية في الدوائر الرسمية تعتمد على من تعرف لا على أحقية في حقوق ثابتة، على الأقل، إن لم يكن في المبدأ، ففي سرعة التنفيذ. لعلنا نضيف - في الحالة الكويتية - أيضا نتائج الاحتلال العراقي، الذي كان كارثيا على الشخصية الكويتية، والذي أورث من ضمن ما أورث، شيئا من عدم اليقين في العلاقات بين الفئات الاجتماعية والدولة. وعلة ذلك أنه ما إن يطرح شخص متشدد موضوعا حساسا بهذا الاتجاه أو ذاك، حتى تقوم القائمة ويفزع الناس إلى حشد الهويات الصغرى دفاعا عن ما يعتقدون المساس به، وتغيب مؤسسات الدولة، والأمثلة تتكاثر.

يقول المختصون أن التنمية هي التدخل الذكي من قادة المجتمع لتحقيق أهداف بعينها يرغبها المجتمع، وهنا نأتي إلى معضلة أخرى - خامسا - في مسلسل الحالة الكويتية، حيث إن الممارسة الديمقراطية في المجتمع الصغير تقف حجر عثرة في تشكل الهوية الجامعة، فكُل يغني على ليلاه، من أجل الاحتفاظ بالكرسي، فيغذي التنافر، بوعي أو دونه، ويمتنع على المجتمع الوصول إلى التوافق على أهداف عامة، تعلي من فكرة المواطنة الحديثة وتجمع على أهداف عامة. كل هوية صغرى تريد أن تأخذ المجتمع إلى ما تعتقد أنه حق وصحيح، ولأن فكرة الديمقراطية من حيث المبدأ هي التوافق على حلول وسطى، تبدو الحلول الوسطى غائبة، حتى تحت قبة البرلمان الذي هو أصلا مكان للحلول الوسطى.

من هنا عندما نراجع خطاب الشيخ صباح الأحمد أمير الكويت في الأسبوع الماضي في بدء دور انعقاد دورة جديدة لمجلس الأمة، نرى العلاقة بين التنمية والديمقراطية يشار إليها بكل وضوح. فنتيجة للتشنجات المجتمعية تتعطل الإنجازات.

يقول الأمير: «إن قدرنا أن نحافظ على النظام الديمقراطي وأن ندافع عنه، ونحميه من كل جور على قيمه وتجاوز على حدوده، أو خروج عن أطره، حتى لا يتحول إلى أداة هدر لمقومات هذا البلد، فكل نظام يوزن بما يحقق للوطن من عطاء ورخاء في حاضره ومستقبله». والإشارة واضحة.

ثم يذهب سمو الأمير في القول: «ما يحوط المشهد السياسي من تجاوزات غير مألوفة ولا مسؤولة هو موضع استنكار ورفض من المجتمع، ولا يمكن لأي عاقل أن يغفل عما تنطوي عليه من مخاطر جسيمة»، الإشارة الأكثر وضوحا في الخطاب قوله: «حتى غدا الشارع وليس قبة البرلمان هو المكان لطرح القضايا والمشكلات، الأمر الذي يتعذر معه الوصول إلى قرار صائب».

إشارة رأس الدولة إلى معضلات الممارسات الديمقراطية التي قد لا تعطل التنمية فقط، بل وأيضا تُعرض النسيج الاجتماعي للتمزق، في وقت ومكان يعج بالمتغيرات الإقليمية الخطرة، تضع المتابع أمام سؤال شرعي ومركزي، هل الممارسات الديمقراطية المعوجة في مجتمع صغير تقود إلى تنمية كما يتطلع إليها معظم الناس، من تكافؤ فرص وتوزيع عادل للثروة وجودة التعليم، أم أنها، بسبب الآليات المتبعة، معطَلة للتنمية من جهة، وضارة بالنسيج الاجتماعي، وإن كانت كذلك، فما البديل؟ تلك أسئلة من الشجاعة الأدبية طرحها وصولا إلى التشخيص الصحيح، من أجل وصف الدواء الصحيح.