مجلس خدمة قبل مجلس نواب

TT

معظم المشاحنات والاضطرابات التي تدك عالمنا العربي تعود لـ«العركة على تقسيم الكعكة». ولما أصبحت عجينة الكعكة تتكون أساسا من الوظائف والمناصب، فإننا نجد أن معظم الشكاوى ترتبط بتقسيم الوظائف. من أهم شكاوى الشيعة في العراق قبل 2003 أن السنة يحتكرون الوظائف والمناصب، واليوم نسمع السنة يتذمرون من احتكار الشيعة لها واحتكار الكرد للوظائف الدبلوماسية.

«العركة على الكعكة» تعني العركة على المناصب، والعركة على المناصب تعني العركة على النهب والسلب. تحاول الحكومة العراقية تهدئة الوضع بزيادة رواتب الموظفين والعسكريين ونواب المجلس. ولكن هذا ضاعف زخم العركة على الوظائف والرواتب وقلل الدافع للإنتاج والعمل الحر.

التفت العهد الملكي إلى هذه المشكلة فقام بهذه المبادرة الرائعة، وهي تأسيس مجلس الخدمة وتكليفه بكل مهمات اختيار الموظفين وترقيتهم ومعاقبتهم وتقاعدهم ونحو ذلك. جرى الترتيب بحيث يتألف المجلس من أعضاء عرفوا بالاستقامة والنزاهة والاستقلالية والخبرة في القضاء. وأحيطت أسماؤهم وهوياتهم بالسرية. لم يعد الوزير أو المدير قادرا على توظيف أحد. إذا احتاج لموظف، يكتب للمجلس عن حاجته وتفاصيلها. يعلن المجلس عن وجود الشاغر. يتقدم الراغبون بعريضتهم ومؤهلاتهم. يجري المجلس امتحانا محاطا بسرية امتحانات البكالوريا. يصحح الأجوبة مصححون مجهولون. تطرح النتائج والمؤهلات على أعضاء اللجنة بالأرقام وليس بالأسماء ويقرر الأعضاء من هو الفائز ويعلمون الوزارة بترشيحه. ويلتزم الوزير بتعيينه. ولكل موظف حق الشكوى للمجلس عن أي حيف يتعرض له.

لسوء الحظ وقع انقلاب 1958 وعطلت الحكومة الثورية عمل المجلس وكنت شخصيا من ضحايا هذا التعطيل بما دفعني لهجرة العراق.

كتبت مؤخرا مقالتين في مجلة عراقية، أحث الحكومة الحالية على إعادة الحياة في مجلس الخدمة تفاديا لهذه المشاحنات والاتهامات، فلا يشكو من التفرقة والاضطهاد سني أو كردي أو تركماني أو مسيحي في حرمانه من وظيفة هو أحق بها من غيره. لم يستمع أحد لهذا النصح. والسبب واضح.

مجلس الخدمة أولى بالأسبقية والأهمية من مجلس الأمة أو أي مجلس آخر. جل مصاعب واضطرابات عالمنا العربي مصدرها الطبقة المتوسطة. وستهدأ الأمور وتخف الضغوط وتقل الشكاوى والمعارضة متى ما اطمأن أبناء هذه الطبقة من الخريجين والمهنيين والمثقفين على حقهم في اقتسام الكعكة بصورة عادلة، أي فيما يستحقونه من وظيفة أو منصب أو عمل حسب مؤهلاتهم وقدراتهم. وأكثر من ذلك، سترتفع الإنتاجية والإبداع بإسناد الشواغر لمن هو أقدر عليها فلا تنتابهم الرغبة لهجرة أوطانهم ونقل كفاءاتهم للدول الأجنبية التي تعطي الكفاءات حقها ولا تسألك عن دينك أو طائفتك أو آرائك أو نسبك وحسبك.