التاريخ والجغرافيا في سياسة تركيا الخارجية

TT

كما كتبت في إحدى مقالاتي السابقة، كانت أول وآخر زيارة لي إلى إسرائيل عام 1998، وقد مكثت خلالها بشكل أساسي في تل أبيب، لكنني أمضيت يومين في القدس.

وأثناء زيارتي ذهبت إلى البلدة القديمة التي لم تكن تختلف كثيرا عن «غراند بازار» في اسطنبول بكل ما فيها من تجارة وأعمال فنية تتوارثها الأجيال. يحرص الباعة هناك، خاصة الفلسطينيين منهم، على بدء حديث مليء بالود مع الزبائن. وبالطبع السؤال عن جنسيتك هو أول سؤال يوجهونه إليك وكنت كلما أخبرهم أنني تركي تطالعني النظرة الحادة ذاتها ثم يتبعها رد غاضب ولاذع وهو: «إنكم لم تعودوا إخوتنا لأنكم خنتمونا».

لقد عملت أنقرة لسنين طويلة على تحسين الروابط الثقافية والاقتصادية مع إسرائيل، بينما امتنعت عن تطوير التعاون العسكري والسياسي. رغم ذلك وقعت الدولتان عام 1996 اتفاقية تاريخية خاصة بالتنسيق والتدريب العسكري أعقبتها خلال العامين التاليين زيارات رسمية رفيعة المستوى، وقامت الدولتان بمناورات عسكرية مشتركة انطلقت من ساحل سورية المطل على البحر المتوسط في خريف 1998. أثارت هذه المناورات، التي عبرت جامعة الدول العربية عن «قلقها الشديد» إزاءها، ردود فعل واسعة في العالم العربي. كانت هذه العلاقات الإسرائيلية - التركية هي ما يدور في ذهن البائع في البلدة القديمة بالقدس عندما كان يصرخ قائلا إن تركيا خانت إخوانها المسلمين.

لقد تأثرت كثيرا بهذه الكلمات حتى إنني أردت مغادرة المدينة بأسرع ما يمكن، لكن لا يمكن لأحد أن يزور القدس دون رؤية المسجد الأقصى الشهير.

أوقفني بعض الجنود الإسرائيليين عند البوابة الحديدية للمسجد وقالوا لي: «لا يمكنك الدخول، إنه وقت صلاة». لم أفهم في البداية ماذا يعنون ثم أدركت وسألتهم: «كيف لكم أن تعرفوا أنني لن أصلي؟» ولم يصدقوا أنني مسلم إلا بعدما اطلعوا على جواز سفري التركي ودخلت بعد شعوري بالمزيد من الإرهاق بعد هذه التجربة. وبعد أن خطوت بضع خطوات نحو الداخل سمعت صوت أحدهم ينادي متحدثا بإنجليزية ركيكة جدا. فشعرت في ظل هذا الجو الروحاني في المسجد أنه يتعين علي دعاء ربي فقلت له: «أرجوك.. أتوسل إليك ألا أكون أنا هذه المرة أيضا» ويبدو أن الله كان غاضبا علي يومها لأنني رأيت رجلا يهرع نحوي.

لقد ظل الرجل يردد هاتين العبارتين كثيرا: «إنه وقت صلاة» «يجب أن تغادر المكان» وتبين لي فيما بعد أنه أحد أئمة المسجد، فقلت له محاولا تهدئته: «إنني أيضا مسلم»، وكان قد تجمع حولنا في هذه الأثناء مؤمنون فضوليون. سألني الإمام عن جنسيتي، فقلت: «تركي» فوجدت رد الفعل ذاته: «لقد خنتم إخوانكم العرب. يجب أن ترحلوا». كنت وصلت إلى حافة الغضب وأوشكت على عدم تمالك نفسي، عندما سمعت أحدهم من بين الجمع فجأة يقول له: «لا تكن متحاملا» وأضاف رجل عجوز قائلا: «حتى جدران القدس قد شيدت في عهد الخليفة سليمان القانوني، في عصر أجداده» وأضاف آخر: «نعم، إنه من بلد الخلافة، دعوه وشأنه». كان الإمام لا يزال غاضبا، لكنه، لحسن الطالع، لم يستطع أن يعترض وتمكنت من التجول في جميع أنحاء المسجد وسط صحبة ودودة.

تعد هذه الحادثة مثالا لما يطلق عليه وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، تأثير التاريخ والجغرافيا على السياسة الخارجية التركية، لذا كنت سعيدا على وجه الخصوص برؤية توجه دفة التعاطف الشعبي العربي نحو تركيا خلال السنوات الأخيرة، حيث يتم التلويح بالأعلام التركية وبصور رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ويسمى المواليد الجدد باسم «طيب». تلك هي تجربتي وأعتقد أن على تركيا، أيا كان العبء الذي تحمله على كاهلها، أن تولي مسؤولياتها التاريخية الاهتمام.

على الرغم من ذلك، أريد أن أذكر رئيس الوزراء أردوغان وزملاءه بأن اليهود أيضا جزء من التاريخ، فربما نغضب من القادة الإسرائيليين الحاليين، لكن ذلك لا يعطينا، ولا ينبغي أن يعطينا، الحق في إهانة اليهود ككل. الأهم من ذلك هو أن هؤلاء المدنيين اليهود الذين قتلوا في هجمات شنتها حركة حماس أثناء انعقاد مفاوضات ثنائية في واشنطن لهم أهمية مثل الأطفال الفلسطينيين الذين يفقدون حياتهم نتيجة الحصار الإسرائيلي الظالم على غزة. إن هؤلاء السياسيين الإسرائيليين من ذوي العقول المنغلقة الذين يضرون أنفسهم سيرحلون وسيبقى الشعب الإسرائيلي في البقعة الجغرافية نفسها والتاريخ نفسه.

لذا الأهم الآن هو اتخاذ موقف متوازن، فهذا ضروري بالنسبة للدور الذي يريد حزب العدالة والتنمية أن يضطلع به في الشرق الأوسط.

* بالاتفاق مع صحيفة

«حرييت ديلي نيوز» التركية