في المفاوضات الفلسطينية.. نجحت العملية ومات المريض

TT

نجحت القيادة الفلسطينية في الوقوف أمام العناد الإسرائيلي، ورفضت حتى الجلوس على طاولة المفاوضات قبل أن تلتزم الدولة العبرية وقف بناء المستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة. وبهذا، تكون قيادة الرئيس محمود عباس قد التزمت ما يسمى الثوابت الفلسطينية، ولكنها في الوقت ذاته أغلقت بوابة الأمل الأخيرة لإقامة دولة لشعب فلسطين، بعد نحو 62 عاما من قيام دولة إسرائيل.

ففي 3 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلنت القيادة الفلسطينية توقف المفاوضات، وقال ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية - بعد اجتماعها مع اللجنة المركزية لحركة فتح في رام الله - إن «استئناف المفاوضات يتطلب خطوات ملموسة تثبت جديتها، وفي مقدمتها وقف الاستيطان من دون قيود». ولم يجد القادة العرب الذين التقوا في قمة استثنائية بمدينة سرت الليبية بدا من تأييد الموقف الفلسطيني. وهكذا نجح نتنياهو في الحصول على تصريح على بياض من القيادة الفلسطينية لبناء ما يشاء من المستوطنات، طالما ظلت هي بعيدة عن المفاوضات.

كان واضحا منذ البداية أن نتنياهو جاء إلى طاولة المفاوضات مرغما، فهو لا يرغب في التوصل إلى اتفاق يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية الآن، قبل أن يتمكن من تنفيذ خطته الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. لم يأت نتنياهو إلى طاولة المفاوضات إلا مضطرا أمام الإصرار الأميركي عندما وضع الرئيس أوباما ثقله السياسي للتوصل إلى تسوية سلمية في الشرق الأوسط خلال عام واحد. وعلى هذا، فقد حاول نتنياهو منذ البداية استفزاز الفلسطينيين ليقوموا هم بتعطيل المفاوضات.

وحتى يعرقل تحرك الجانب الفلسطيني بعد وقف المفاوضات ويحرجه في حال لجوئه إلى مجلس الأمن، قال نتنياهو إنه مستعد لوقف الاستيطان إذا اعترف الفلسطينيون بيهودية دولة إسرائيل. وبالطبع، التزم الفلسطينيون الثوابت مرة أخرى ورفضوا قبول هذا الطلب. فعلى الرغم من اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل سنة 1993، فإنها لم تقر حتى الآن بما جاء في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة والذي نص على حق اليهود في إقامة دولة لهم على أرض فلسطين.

ويستند الرفض الفلسطيني للاعتراف بيهودية إسرائيل على قرار الأمم المتحدة 194 الصادر في 11 ديسمبر (كانون الأول) 1948، الذي نص على وجوب السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم في أقرب تاريخ عملي، ويتم تعويض من يختارون عدم العودة عن ممتلكاتهم وعن الأضرار التي لحقت بهم. إلا أن هذا المطلب أصبح غير واقعي بعد مرور 62 عاما على صدور القرار ولا يمكن تنفيذه الآن. كيف تقبل إسرائيل ثلاثة ملايين لاجئ فلسطيني، بالإضافة إلى مليون وربع فلسطيني يقيمون بأرضها؟ لهذا، نجد أن قرار مجلس الأمن 242 الصادر في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، في أعقاب حرب يونيو (حزيران)، لم يذكر سوى «تحقيق تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين» ولم يتحدث عن عودتهم جميعهم. وبخصوص المستوطنات، فمن الضروري أن تدرك إسرائيل استحالة الإبقاء على كيانات تخضع للسيادة الإسرائيلية داخل أراضي الدولة الفلسطينية. وفي اعتقادي أنه عند الحديث عن خرائط الوضع النهائي، يمكن الوصول إلى اتفاق يقضي بإخلاء المستوطنات التي تدخل في حيز دولة فلسطين، واستبدال بعضها بمناطق أخرى من الأراضي الإسرائيلية.

كان في استطاعة المفاوض الفلسطيني - لو أراد المناورة - إحراج نتنياهو والاستمرار في المفاوضات، على الرغم من الاستمرار في بناء المستوطنات، حتى يتمكن الفلسطينيون من إقامة دولتهم خلال عام، عندها يتم الوصول إلى اتفاق شامل ورسم الحدود لكل من الدولتين. فعندما بدأ الرئيس السادات مفاوضاته مع الإسرائيليين، كان رئيس الوزراء مناحم بيغن يقوم ببناء منزل له في سيناء المصرية ليسكنه بعد اعتزال السياسة، ومع هذا تمكنت مصر من استرجاع سيناء بأكملها وتم تفكيك المستوطنات عند نهاية التفاوض.

إلا أن الموقف الفلسطيني الرافض للمفاوضات يتوافق - ليس فقط مع موقف قوى الممانعة - ولكن كذلك مع مشاعر الكثيرين من أبناء الشعوب العربية، التي ترى أن البطل هو الشخص القادر على رفض التفاوض. فالنجاح بالنسبة للسياسة العربية يرتبط بقدرة الزعيم على الرفض والتحدي، وليس بقدرته على تحقيق المكاسب لشعبه. وقد نال جمال عبد الناصر لقب زعيم الأمة العربية من الخليج إلى المحيط، على الرغم من مغامرته في حرب 67 التي أدت إلى ضياع الأرض العربية في غزة والضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء.. فقط لأنه قال لا. وسار ياسر عرفات على الدرب البطولي نفسه، فرفض الاشتراك في مفاوضات السلام التي دعاه إليها أنور السادات ثم رفض قبول مقترحات بيل كلينتون في كامب ديفيد الثانية، فصار بطلا قوميا ورمزا لكفاح الشعب الفلسطيني، على الرغم من ضياع فرصتين نادرتين لإقامة دولة فلسطينية.

وبينما قامت خطة العرب على أساس مطالبة أميركا بالضغط على إسرائيل، فهم تجاهلوا القوة الرئيسية التي في وسعها حقا تغيير سياسة نتنياهو، ألا وهي شعب إسرائيل نفسه. فالشعب الإسرائيلي - مثله في هذا مثل جميع الشعوب - يريد السلام، لكنه بسبب عقدة الاضطهاد التاريخية يخشى على أمنه ويخاف من الدمار. والشعب الإسرائيلي هو الذي يختار حكامه، وهو الوحيد القادر على إقالة نتنياهو أو إجباره على قبول التنازلات من أجل السلام. هذا هو ما أدركه الرئيس أنور السادات عندما حطم حاجز الخوف وعقدة الاضطهاد وذهب إلى القدس ليخاطب شعب إسرائيل مباشرة. لم تضغط أميركا على إسرائيل في المفاوضات المصرية - الإسرائيلية، بل كان اليهود أنفسهم هم الذين ساعدوا مصر في استرجاع أرضها المحتلة، وكان اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة يقف إلى جانب السادات في مطالبه من الإدارة الأميركية وحكومة إسرائيل. أعطاهم الأمان، فأعطوه كل شبر من أرض بلاده.

هل يمكن أن يتدارك الفلسطينيون خطورة الموقف الذي وضعهم فيه نتنياهو ويفوتوا عليه فرصة تأجيل قيام الدولة الفلسطينية سنوات أخرى.. يكون عندها قد استكمل بناء ما يشاء من مستوطنات على أرضهم؟!