المشهد الحزبي الحالي في المغرب

TT

المغرب، بموجب دستور البلد، دولة تعددية حزبية. والدستور المغربي، منذ صيغته الأولى في مطالع ستينات القرن الماضي وامتدادا على مختلف الصياغات اللاحقة بعد ذلك، يعلن في فصل صريح من فصوله: «نظام الحزب الوحيد ممنوع في المغرب». أما الساحة السياسية في المغرب اليوم فتعد بضعة وثلاثين حزبا تعمل بموجب الدستور، وفي توافق مع مدونة نظام الأحزاب السياسية في المغرب الصادرة قبل بضع سنوات. والقصد بذلك أن الأحزاب السياسية في المغرب تقوم، من حيث المبدأ، بتأطير الوجود السياسي للمواطنين. الحق أن هذه الكثرة الكثيرة من الأحزاب السياسية إن كانت تدل على شيء فهي تدل، من الناحية الصورية على الأقل، على وجود دينامية في الفعل السياسي، غير أنها، في العمق، تؤشر على أزمة، وتكون شاهدا على قيام خلل ما في المشهد الحزبي في المغرب اليوم.

تجدر الإشارة إلى أن ثمانية أحزاب فقط من بين الأعداد المشار إليها تعيش حضورا سياسيا فعليا ملحوظا (بغض النظر عن طبيعة ذلك الحضور، فتلك قضية أخرى). والقياس في الحكم بذلك هو الوجود أو الغياب في البرلمان بغرفتيه (مجلس النواب ومجلس المستشارين)، ذلك أن هنالك من بين تلك الأحزاب من لا يملك مقعدا واحدا في البرلمان المغربي، مثلما أن من بينها من كل رأسماله السياسي مقعد واحد، وربما اثنان في أحسن الأحوال، وهذا من جانب أول. والقياس في الحكم بالحضور أو عدمه هو من جانب ثان التمكن، أو عدمه، من تكوين فريق برلماني في إحدى الغرفتين أو في كلتيهما حتى يكون له صوت مسموع داخل البرلمان، وبالتالي تأثيره في الحياة التشريعية.

تعني ملاحظتنا هذه أن ما يقارب الثلاثين حزبا في المغرب اليوم يعيش على هامش الحياة السياسية، وليس داخلها. نوضح الفكرة فنقول، في عبارة أخرى: إن ما يقارب الثلاثين حزبا، من أساس ستة وثلاثين حزبا سياسيا في المغرب، لا يعرف له وجود فعلي، عدا عن أيام الحملات الانتخابية، وبالتالي فهو يعيش حالة «كمون» تستمر بين استحقاق انتخابي وطني وآخر، فالحياة لا تدب في تلك الأحزاب إلا متى تحركت الآلية الانتخابية مع ما يرافقها من حركات التحالف والتسابق قصد الظفر بمرشحين «أكفاء»، أي قادرين على الوصول إلى قبة البرلمان، سواء إلى الغرفة الأولى في الانتخابات المباشرة أو إلى الغرفة الثانية بالتوافر على ما يلزم من أصوات «كبار الناخبين» (الترشح للغرفة الثانية في المغرب يمر، ضرورة، عبر المجالس الجماعية البلدية أو القروية، وكذا الغرف المهنية والتنظيمات النقابية). أما بعد انطفاء جذوة المنافسة وخفوت سعير الحرب على الوصول إلى البرلمان، فإن جل تلك الأحزاب يتراجع إلى منطقة الظل، فلا يذكر بوجوده إلا في أحوال معدودة، هي على الأرجح مناسبات وطنية ستلزم المجاهرة بالرأي، وهي في أغلب أحوال تلك الأحزاب ضرورة يحمل عليها فحوى قانون الأحزاب الذي يقضي بوجوب احترام يومية عقد الجموع العامة الداخلية قصد إعادة انتخاب الهياكل التنظيمية في التواريخ السابق الالتزام بها، وبالتالي حتى تكون في توافق مع تلك المدونة، فلا تتعرض لعقوبات قد تبلغ درجة إقصاء الحزب من الحياة السياسية للبلد.

وإذا كانت أحد أسباب ضعف الحياة الحزبية المغربية - وهي ما ينعت بالعزوف عن العمل السياسي عامة وفي أوساط الشباب خاصة - فإن الواقع الذي نحن بصدد تصويره يرجع إلى أسباب ثلاثة كبرى هذا أحدها. وأما أحد السببين الباقيين، وهو في الوقت ذاته عيب عضوي سياسي أخلاقي معا، فيكمن في الفساد الذي يلازم الحياة الداخلية للحزب السياسي في المغرب، للأسف، عموما نتيجة تفشي الزبونية والولاءات الأسرية الضيقة وظواهر أخرى سلبية. وثاني السببين، وهذه تكاد تكون مقتصرة على الأحزاب «الانتخابية»، هو التشابه الشديد الذي يكاد يبلغ درجة التطابق في البرامج والأهداف المسطرة في أدبيات تلك الأحزاب، بالإضافة إلى ما تلجأ إليه تلك الأحزاب من صيغ غريبة عجيبة من التحالفات المرحلية الهشة في حمى التسابق على المقاعد البرلمانية. كل الوسائل تغدو ممكنة من أجل بلوغ تلك الغاية والتحايل على القانون، واللجوء إلى كل أشكال الكذب الممكنة من أجل انتزاع أصوات الناخبين يغدو السلعة المبتغاة.

إذا ما حاولنا بعد ذلك أن ننظر الآن في مكونات المشهد الحزبي في المغرب من الناحية البنيوية، بعد ما اعتبرناه من الناحية الشكلية، فنحن نجدنا أمام وجوب التنبيه إلى جملة صعوبات نحسب أنها تمكن من ملامسة بعض مكامن الضعف والخلل في المشهد الحزبي في المغرب.

تكمن الصعوبة الأولى في التصنيف. ذلك أن واقع الحال يجعل القسمة المعتادة التي تجعل الأحزاب السياسية يمينا ويسارا قسمة غير ذات معنى، والدليل الأكبر على ذلك هو تجمع «الكتلة الوطنية». فمن جهة أولى نجد التجمع يضم حزبين يعلنان انتسابهما إلى المنظومة الاشتراكية في مقابل حزب آخر يقول بغير ذلك. ومن جهة ثانية نجد أحد الأحزاب الثلاثة المكونة للكتلة يعمد، من جانب أول، إلى نشدان قطب اشتراكي يساري، ومن جانب ثان، يتوجه الحزب المشار إليه جهة أحزاب لا تشاركه في شيء في توجهاته الآيديولوجية – بل ربما كان الأصح أنها تخالفه فيها - وكل ذلك بغية تكوين فريق نيابي داخل البرلمان.

والصعوبة الثانية في التصنيف توجد، وهذا من الغرائب، من حيث الانتساب إلى الأغلبية أو الانتماء إلى المعارضة (بمعنى أن أحزابا تنتقد الحكومة وتعترض على اختياراتها، ولكنها حين التصويت تصادق على قراراتها - هناك في الممارسة البرلمانية في المغرب مصطلح لا يخلو من غرابة، بل ولربما من طرافة أيضا وهو مصطلح المعارضة النقدية).

أما الصعوبة الثالثة فمصدرها يعود في حقيقة الأمر إلى العجز الذي يظهر من الأحزاب في المغرب، بعد الانتخابات التشريعية، في حصول حزب من الأحزاب المغربية على الأغلبية الكافية لتكوين حكومة دون الالتجاء إلى سلسلة من التحالفات الغريبة والهشة معا. نعم، إن الملك يعين، بمقتضى الدستور، الوزير الأول، وهذا الأخير يقترح على العاهل قائمة الوزراء، ولكن الواقع هو أن لا أحد من الأحزاب أو من التحالفات السياسية يقترب من الأغلبية المطلوبة في تأسيس حكومة، وبالأحرى أن يتمكنوا من ذلك. لا نحسب أن هنالك دليلا أوضح من هذا في البرهنة على الضعف والعجز عن تشكيل أقطاب سياسية فعلية على غرار ما هو مألوف في الديمقراطيات الغربية.

يظل هنالك، في النظر في المشهد الحزبي في المغرب، سؤالان اثنان يطرحان بقوة. أولهما، ولربما أهمهما، هو: لماذا كانت الأحزاب السياسية في المغرب، مع الرصيد الزمني الكبير الذي تتوافر عليه في كثير من الحالات، عاجزة عن استقطاب الجماهير الكبيرة من المواطنين، بشهادة النتائج الهزيلة التي تكشف عنها الانتخابات، وبدلالة أعداد المنتمين إلى حزب سياسي من المواطنين المغاربة؟ والسؤال الثاني يتعلق بمعرفة ما إذا كان في إمكان قوة سياسية جديدة أن تسهم في تغيير الصورة، وبالتالي أن تقدر على إحداث نواة صلبة لقطبية سياسية كبيرة تغدو بموجبها هذه الكثرة الكثيرة من الأحزاب في المغرب قوى سياسية فعلية تعكس تطلعات سياسية معقولة وتبلور تصورات سياسية تملك القدرة على الفعل والعطاء في الوجود السياسي المعاصر في المغرب.

يستوجب السؤالان وقفة تأمل، ويستدعيان جرأة في النظر، وصراحة في العبارة.