قطرات ندى

TT

تتشابه بدايات الأدباء والمفكرين السعوديين، وتتفاوت في محطات الوصول. والأكثرية الساحقة من الذين وضعوا سيرة ذاتية، إنما أرادوا، في وجدانية واحدة، تدوين شيء من الامتنان للعائلات الفائقة البساطة التي خرجوا منها، وللأرياف الصعبة، التي سوف يغادرونها ذات يوم إلى المدن، ثم إلى الخارج، طلبا للعلم، ومن ثم عائدين للجد في السعي.

هذا النوع من الكتابة، لهذه الفئة من الأجيال، لا تتشابه فقط في السعودية بل تقريبا في كل العالم العربي. تتميز سيرة عبد الرحمن السدحان «قطرات من سحائب الذكرى» بوداعة لا مثيل لها. ولد غارق في محبة والديه، متعلق بأشقائه، يربى في كنف عمه الذي يكن له أيضا حبا كثيرا. ولا شقاء في طفولة عبد الرحمن السدحان ولا ضيق ولا تبرم بحاجة. صحيح أنه لا كهرباء والمياه بعيدة والمدرسة مسافة والمال شح، لكن الحياة هانئة والمحبة تملأ المحيط.

لم أكن قد قرأت «قطرات» عندما كان الدكتور غازي القصيبي يداعب صديقه ورفيقه، بالقول إنه يغبطه على سيرته. كان يهدر ضاحكا: «يا معالي الدكتور، سيرتكم ألوان وسيرتنا فصل واحد». وإلا فأي لون يعطيه كاتبنا لسيرته وهو يروي أن عمره الرسمي غير عمره الحقيقي، لأن تسجيل المواليد آنذاك كان على بركة الله؟

ولنا، اللبنانيين، فصل عذب في طفولة السدحان. فها هي عائلته ترسله مع شقيقه مصطفى، للدراسة الابتدائية في زحلة. وأول ما يصلها، يسعده مشهد نهرها الصغير وبقايا الصيف على ورق الشجر: «قلت في نفسي، وأنا أتقاسم ابتسامة إعجاب مع أخي مصطفى: شتان بين غبرة جازان، التي قدمنا منها عبر جدة، ولآلئ الماء المتدفق في نهر البردوني الوديع».

لكن هناءة زحلة وخضرتها لن تدوم أكثر من سنة واحدة، ما أن انتهت حتى «جاء أمر الوالد» بأن نعود، فرضخ صاحبنا حزينا. وإذ لاحظ الأب أن ابنيه يستخدمان بعض الكلمات اللبنانية، نهر عبد الرحمن قائلا: «لا أريد أن أسمع منكما بعد اليوم كلمات مثل منيح وهيك وهلأ. فابتسمت لكلماته الأبوية وقلت له منيح يا بابا»!

هذه المرة كانت العودة إلى جدة. لكن سنوات اليافع كانت قد امتلأت هجرات وهو يعد في هذه السن: أبها، جازان، الطائف، مكة، جدة، جازان، جدة ثم الرحلة إلى زحلة و«نهرها البديع» حيث ازداد الحنين «إلى الوطن والأهل عامة وسيدتي الوالدة على نحو خاص». هل من الضروري أن تعرف العمر الحقيقي لكاتب مذكرات يشير إلى أمه دائما بالقول «سيدتي الوالدة»؟