حوار عقيم.. ومصير مسيحي مهدد

TT

«الكلام السياسي يتعمد أن يجعل للأكاذيب صدقية.. وللقتل احتراما.. وللريح مظهر الصلابة»

(جورج أورويل)

خلال الأسبوع المنصرم طوى حزب الله، صراحة، صفحة «المهادنة»، وفتح معركته ليس مع خصومه فقط.. بل مع من يفترض أنه «الحَكم» أيضا، أي رئيس الجمهورية اللبنانية. أما تذرع «الحزب» بأن مقاطعته «طاولة الحوار» إنما جاءت من قبيل التضامن مع النائب ميشال عون فكلام لا ينطلي حتى على جمهور له مستوى ذكاء الأورانغ أوتان.

فعون، على الرغم من كل الكلام الطيب والدعم الأطيب اللذين أمّنهما له حزب الله خلال السنوات التالية لـ«وثيقة التفاهم»، ولا يزال، ليس في وضع يسمح له بأن يقرر أو حتى يتكلم باسم «الحزب». بل هو على الصعيد الاستراتيجي أقرب ما يكون إلى وضع «الرفيق» أنور خوجه في حضرة «الزعيم» ماو تسي تونغ إبان السنوات الأولى من «الحرب الباردة». ولكن مع هذا، اختار السيد محمد رعد، رئيس كتلة «الحزب» البرلمانية، أن يوحي بعكس ذلك.

حقيقة الأمر، أن مقاطعة «طاولة الحوار» ليست إلا حلقة جديدة من سلسلة حلقات لن تنتهي، وفق حسابات «الحزب»، إلا بتوليه الأمور في البلاد رسميا.

أصلا، كانت فكرة «الحوار» من بنات أفكار الرئيس نبيه بري في ظل الفراغ ورفض من كانت يومذاك «قوى المعارضة» الاعتراف بأصول اللعبة الديمقراطية، مستقوية بالسلاح. وفي ذلك الحين، عقدت الجلسة الأولى يوم 2 مارس (آذار) 2006، مع أن قلة من المراقبين العقلاء كانت متفائلة بجدوى الحوار. فهي عقدت يومذاك لأن أحدا من الأفرقاء اللبنانيين ما كان يجرؤ أخلاقيا وسياسيا على القول جهارا إنه ضد مبدأ التحاور. ولكن، لاحقا، بعد حضور السيد حسن نصر الله - شخصيا - الجلسة الأولى، تولى تمثيل «الحزب» السيد رعد، بداعي الاعتبارات الأمنية، في مهمة متناقصة الأهمية.

وبالتوازي مع تناقص أهمية الحوار، اعتمد «الحزب» وتوابعه خطوات أخرى في الشارع وداخل مجلس الوزراء ضد المحكمة الدولية، على الرغم من التأكيد اللفظي الدائم أن «الجميع» مع المحكمة.

هذه المرحلة انتهت الآن، وبالتحديد، منذ قرر حزب الله أن المحكمة «إسرائيلية». ومن ثم انتقل من اتهامها، إلى تحذير اللبنانيين من التعاون معها، ووصولا إلى العمل ميدانيا على تعطيل عمل محققيها.

في هذه الأثناء، وإزاء خلفية التوتر الإقليمي الشيعي - السني، ظل ضمن الاعتبارات السياسية المدروسة لحزب الله ضرورة تكليف طرف ما من خارج الطائفة الشيعية تولي مهمة المزايدة في التصعيد ولعب دور «الواجهة» في التعطيل والإرباك. والواقع أن جهودا كبيرة بذلت لبناء كتلة مسلمة سنية لهذا الغرض، ونجحت هذه الجهود إلى حد ما في تأسيس هيئات ورعاية تجمعات تطل على شاشات التلفزيون، وبث النشاط في زعامات تقليدية متراجعة وأحيانا على شفير الإفلاس. إلا أن أحدا لم يفِ بالغرض سوى «التيار العوني» وزعيمه.

عون كان الخيار الأمثل والأضمن، لأنه يرى نفسه «ولي الدم» بالنسبة لصلاحيات رئاسة الجمهورية التي يؤمن بأن السنة اغتصبوها من المسيحيين الموارنة، ولأنه الرجل الذي يرسم علاقات مع الآخرين وفق مقياس الكراهية.. لا المحبة أو التحالف. غير أن مشكلة عون هي أنه، وسط «شرنقة» كراهيته الشخصية الشديدة لما يسميها «المرحلة الحريرية» - المتزامنة مع ما يعتبره الصعود السياسي للمسلمين السنة - ما عاد يقيم وزنا للأخطار الوجودية التي تحيط بالمسيحيين في لبنان. بل، إنه مقتنع بأن له وللمسيحيين مصلحة في خوض معركة ينفذها آخرون، وسيدفع ثمنها الوجود المسيحي.. بحجة استعادة «حضورهم» السياسي، الذي هو فعليا «حضوره» هو وحده.

من هنا، وإزاء نزيف المسيحيين في العراق الآتي بعد النزيف المسيحي الفلسطيني الفظيع، كان من الطبيعي أن تبادر قيادات مسيحية إلى قراءة المتغيرات الإقليمية الخطيرة، وبالأخص، عندما يقرر حزب الله أن يوقف الحوار، وينقلب على الشرعية اللبنانية، ويواجه الشرعية الدولية بقوة السلاح.

كثرة من المسيحيين اللبنانيين ترى هذا الكابوس المحتمل وتداعياته. وعن وعي تام تدرك أن الشرعيتين، الوطنية والدولية، هما وحدهما القادرتان على حماية وجودهم. فلا مصلحة للمسيحيين من تفجر فتنة سنية - شيعية. بل هم، والأقليات الأخرى الأقل حجما منهم، المتضرر الحقيقي من هذه الفتنة.

هذه هي الرسالة التي خرج بها لقاء بكركي الأخير، طبعا، في غياب المتحمسين في طلب الفتنة.