على شاطئ الخمسين

TT

أقف على شاطئ الخمسين من العمر، أنظر إلى الضفة الأخرى بأمل، ويبدو ما ورائي سرابا، فهل كان ماضيا لا يستحق الاسترجاع؟ لا أعرف، ولكن ما أستطيع إحساسه لدرجة اليقين هو أن هناك حبلا متينا من أول البدء (وهنا أعني بدئي الشخصي) أوصلني إلى شاطئ اليوم، كأنه الحبل السري بالمعنى الحرفي للمصطلح، حبل من نسيج أمي وأبي وابنتي وزوجتي وإخوتي حتى الصغيرة منهم التي رحلت سريعا عن دنيانا. حبل دافئ وطازج ولزج فيه لحظات الميلاد والخوف من الفناء.

أتردد كثيرا في النظر إلى الخلف، ذكريات مشوشة عن سنوات قضيتها في المكانات الأولى، مكانات كانت في جوانب كثيرة خانقة؛ فيها موت للمعاني، وضيق في الرؤيا، وانحسار للأفق، وما وجدت لكي أكون ضيقا أو ضائعا، فمنذ كنت طفلا رأيت كيف يخلق الحجر عند رميه في النهر دوائر لا منتهية من رحابة المعنى وغموض المدلول وترميز الكنايات، وما زلت وأنا واقف على شاطئ الخمسين من العمر أرى الناحية الأخرى أفقا ممتدا لا حدود لرؤياه، أتخيله بنخيله وسمائه وأضوائه الباهرة، كرؤية مدينة عن مسافة مدروسة في واحدة من لوحات الانطباعيين الأوروبيين.

أنا الآن في ورطة كبرى؛ فلطالما طالبني كثير من القراء والأصدقاء بالكتابة عن تجربتي، فالكتابة المفيدة في نظر كثيرين هي الكتابة عن التجارب السابقة، ولكن كيف لي هذا وأنا لا أعترف بحقيقة ما ورائي؟ (ما ورائي ليس بالضرورة الماورائية). ربما أقنع نفسي بالالتفات إلى السراب الذي خلفي.. وليكن دليلي الذي يقودني إليه هو ذلك الحبل السري الذي لا يزال يحتفظ بدفئه وحرارته.

أكتب والوجع يعضني، ليس وجع البعاد على مذهب أهل الشعر، ولكنه وجع عضوي بحت في كتفي اليسرى، ترتفع وتيرة الألم فيقترب الشاطئ الآخر مني كأنه هو الذي أصبح الآن يرنو إلي. تتفتح الكتابات كالزهرة تكشف عن طبقاتها واحدة تلو الأخرى. لماذا نرغب في الكتابة عن الذات؟ هل هذه ورطة الإنسان الكبرى لمحاولة الاستفادة مما ليس مفيدا؟ أم إنها المحاولة لخلق حالة الجاذبية التي تجعل هذا السراب الذي نسميه حياتنا مشدودا إلى الأرض؟ هل هكذا بنيت المدن والأوطان في الأصل، من تكثيف الذكريات لمجموعة من البشر مروا أو عاشوا بها كما يكثف السحاب فيصبح ماء ويكثف الماء ليصبح صلبا؟!

سأحاول الكتابة عما أتذكره، فما هو حقيقة لحدث أو موقف ما في ذاكرتي قد يكون وهما في ذاكرة آخرين عاشوا الحدث بعينه، وتلك طبيعة الأشياء. ربما الجديد الذي سوف أستحضره في كتابتي، هو أنني سأحاول الكتابة عن الماضي منطلقا من الرائحة أو ما تبقى منها في الذاكرة، الرائحة سوف تقودني إلى ما أظنه - ربما خاطئا - سرابا.

أتذكر أننا كنا عند البئر، «ننطل الماء» أي نرفعه بالدلو لملء «الميضة»، وهي مكان الوضوء في «المصلاية» (أي مصلى صغير لا جامع ولا زاوية) مفروشة بالحصر المصنوعة من نبات الحلف الذي ينمو على ضفاف النيل. ولماء البئر طعم ورائحة غير ما كان يقال لنا في المدرسة بأنه لا طعم لماء البئر ولا رائحة له، لماء البئر طعم ذو مرارة خفيفة غير ماء النيل، وبه رائحة البئر، كنا نتوضأ من هذا الماء كبارا وصغارا في النجع الذي نشأت فيه في أقصى الجنوب المصري. وكانت للصلاة أيضا رائحة، خليط من رائحة ماء البئر، ورائحة عرق «الشغيلة» من أهل النجع، والرائحة الناتجة عن امتزاج الأقدام المغسولة الرطبة مع رائحة الحصر.. خليط من الروائح المتداخلة يسري في الجسد سريان كل مقدس جميل. الصلاة صلات على ما يبدو، فصلتي بأهلي كانت مربوطة بالصلاة أيام الصغر. وقدسية الصلاة ومحبتي لها كان قسم كبير منها يعود، ربما، لهذا الاجتماع لمن يسكنون بعضهم إلى جوار بعض. كان النجع دائما مهددا من اللصوص الذين يقطنون الجبل، كانوا رجالا أشداء يحملون السلاح يأتون على القرية ليلا فيثيرون في أهلها الخوف، وكنا بعد الصلاة نسمع من رجال قريتنا الكبار أحاديث شجاعة بينما كنا نرى الخوف في عيونهم، ربما هذا الخوف هو الذي خلق لدينا فكرة المجتمع، وربما هو الذي خلق الخلط بين الصلاة والصلات. لم يكن هناك تلفاز؛ فقد رأيت التلفاز والكهرباء فقط عندما دخلت الجامعة عام 1977، كانت تسليتنا هي قصص أهلنا التي كانت تشبه أحيانا أفلام الرعب، وأحيانا أخرى قصص تصنع لهدهدة الأطفال عند النوم.. بحكاياهم هذه كانوا يوسعون مساحات اللغة من دون قصد، فيزداد عدد الكلمات في قاموسهم اللغوي، كانوا ينسجون القصص لصناعة مخيلة جماعية تقيهم الخوف، جزء منها من القرآن وجزء آخر من تمائم الرهبان في نقادة التي تسكنها أغلبية مسيحية، وجزء أيضا من قصص فرعونية ترسبت في الداخل وتعاطى معها الأهل على أنها من صميم الإسلام.

أذكر أننا ذهبنا إلى المقابر يوما لدفن قريب لنا، وكان الحزن في القرية عظيما لما حدث لرجل يحبه الناس، ولا داع للخوض في التفاصيل فهي تخص أحياء بيننا، ولكن المهم أن القبر عندنا ما زال فرعوني الهندسة، حفرة مضللة إلى أسفل وعميقة، ثم حفرة جانبية يوضع فيها الميت ويكون وجهه إلى الشرق ورأسه إلى الجنوب وقدماه إلى الشمال، نقول إنه يستقبل القبلة، ولكن أيضا هو استقبال الشمس لحظات الشروق في عبادة إله الشمس أتون. وما زال البعض، إن كان الميت شابا، يضعون معه أشياءه وثيابه الجديدة.. يقولون ليلبسها كعريس عندما يقوم. قال الرجل الذي يدفن الميت ويغلق عليه القبر للجالسين من القوم ممن يتمتمون بالقرآن، إن صاحبهم كان رجلا صالحا، ولما سألناه عن علامات الصلاح هذه قال: «وأنا أضع اللبنة الأخيرة لسد القبر، رأيتهم يأخذونه في القنجة الخضرا»، قلنا: وما القنجة الخضراء؟ قال: «هي مركب يحمل فيها الميت، لونها أخضر محاطة بالأنوار، يشدها رجال يلبسون الأبيض من الكتان، ربما من الملائكة»، الرجل يصف ما رآه علامات من علامات الصلاح وهو يصف رحلة مركب الشمس التي وصفها «كتاب الموتى» الفرعوني.. المركب القادم من الشرق يأخذ الميت إلى الغرب حيث المدافن، ومن ثم تأخذه المراكب الرمزية (المتخيلة) إلى العالم الآخر، حيث يزن أوزوريس قلب الميت فيضع القلب في كفة للميزان، و«ريشة ماعت» رمز العدل في الكفة الأخرى، وهي صورة تراها في معظم المعابد والمقابر في جنوب مصر. تلك القصة الفرعونية يحكيها رجل لا يقرأ ولا يكتب، كل وظيفته في القرية هي دفن الموتى، ولكن هذا الخلط موجود عندنا، فلا تتبين الإسلامي من المسيحي من الفرعوني في السرد. يحكون لنا قصصا فتتسع اللغة، ويتحدث الرجال بطريقة، وتتحدث النساء بطريقة مختلفة تماما حتى تكاد تكون لغة أخرى. وكانت العبادة من عادات الرجال، في حين كانت القصص والدعوات من أعمال النساء.. فكيف يقسم العمل هكذا؟ وكيف يستجاب لدعاء المرأة التي لا تصلي؟ ونادرا ما كانت تصلي النساء في النجع منذ عشر أو خمس عشرة سنة مضت، فصلاة النساء بدأت تقريبا مع ملامح انتشار التلفزيون. وكان دعاء النساء محمودا، وأعظمه في ساعات الولادة، فعندما تضع المرأة حملها يقال إنها على كف الرحمن وإن دعاءها مستجاب، وكنا نطلب منهن الدعاء للمسافر وطالب العلم والمريض، ولم يكن عندنا خجل من ذلك، ولم نر تناقضا بين عدم صلاة النساء واستجابة دعائهن، كما لم نتوقف كثيرا عند حقيقة أنه رغم صلوات الرجال الكثيرة، فإننا لم نسألهم دعاء!

* مقاطع من كتابي القادم «على شاطئ الخمسين»