غث وسمين على الهواء!

TT

التسريبات التي تمت من موقع «ويكيليكس» بخصوص الحرب الأميركية على العراق وأفغانستان نالت الاهتمام والتفاعل بشكل مثير ولافت، وتحول رئيس الموقع جوليان أسانغ السويدي الجنسية إلى نجم لامع ومثير للجدل يحاول الكثيرون أن يفهموا مصدر قوته وسر نجاحه، وطبعا لم تكن تسريبات وثائق الحرب على العراق وأفغانستان أول نجاحات هذا الموقع.

ففي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 سرب ملف التعامل مع أسرى سجن غوانتانامو الشهير، وفي شهر فبراير (شباط) من عام 2008 سرب وثائق تخص غسل الأموال والهروب من سداد الضرائب بحق فرع لبنك جولياس بير بجزر الكايمن، وفي شهر سبتمبر (أيلول) من عام 2008 سرب رسائل إلكترونية من بريد حاكمة ولاية ألاسكا السابقة سارة بالين بموقع ياهو، وفي شهر أبريل (نيسان) من عام 2010 سرب الموقع لقطات سرية لقصف جوي تم في 2007 من القوات الأميركية على بغداد تسبب في قتل 12 شخصا، وطبعا حصلت تسريبات بعد ذلك في شهر يوليو (تموز) 2010 بخصوص الحرب على أفغانستان، وبلغ عدد الوثائق ما يقارب التسعين ألف وثيقة، وفي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2010 تم تسريب آلاف الوثائق بخصوص الحرب الأميركية على العراق، التي تثبت بحسب الموقع تورط الولايات المتحدة في جرائم الحرب.

كل هذه الأمثلة المهمة تثبت أن التقنية اليوم باتت لديها من القوة الهائلة ما يجعلها تخترق كل موقع وتحصل على كل معلومة، فتتجاوز جدار السرية، وتحطم أسوار الخصوصية، وهو نموذج مصغر لما ستؤول إليه الأمور مستقبلا بحيث ستكون المعلومات الخاصة والسرية متاحة ومشتركة لاطلاع العامة عليها على كوكب الأرض كله. الشركات والحكومات سيتم نشر غسيلها القذر على العلن، ولذلك من الطبيعي أن يكونوا من اليوم على درجة عالية من الخوف، إن لم نقل من الرعب.

هذه النقلة ستنعكس على مجالات قوانين وأنظمة المواقع الإلكترونية، وحماية حقوق الملكية، وأنظمة سرية المعلومات، وحدود السيادة ومداها، وهي منطقة وعرة ورمادية وغامضة، وغير واضحة الحدود ولا الملامح، ولعل ذلك يفسر (في العالم العربي على أقل تقدير) حساسية السلطات الإعلامية الرسمية من الكلمة المطبوعة في الصحف، أو البرامج الحوارية على الشاشات التلفزيونية، وبقاءها عاجزة تماما عن التعامل مع ما يتم طرحه وتناوله في المواقع الإلكترونية والمنتديات الرقمية، علما بأنها تتكاثر وتنمو بسبب متابعتها بشكل مذهل، وخصوصا من قبل شريحة الشباب المؤثرة والكبيرة عددا. وسيكون الإعلام الرقمي في المستقبل القريب هو الأداة الأكثر انتشارا، والأخطر والأشد فعالية.

المثال الصارخ على هذه المسألة على الصعيد العربي هو ما يحدث في المطبخ الإعلامي العربي الكبير في مصر، فالحديث والضوضاء المتصاعدة عن إيقاف برامج حوارية وتجميد أنشطة نجوم وإعلاميين كبار، وفصل وإبعاد كتاب ورؤساء تحرير، ومحاكمة مذيعين بتهم مختلفة جعل المتلقين لهذه الأخبار المتلاحقة (والتي صادف أن أبطالها هم ناقلو الأخبار أنفسهم) ينقسمون إلى أصحاب نظرية المؤامرة التقليدية الذين يؤمنون أن هناك قرارات سياسية وأمنية وراء ما يحدث، وآخرين يعتقدون أن كل حالة مستقلة، وأن هناك قرارات إدارية ومالية وتجارية وقانونية وراء الإجراءات بحسب كل حالة بعينها، ولكن من الواضح أن الإعلام بصورة عامة والمعلومات بصورة أدق تعيش مرحلة «نشوء» جديدة تتعلق بأوضاع مؤثرة صنعتها التقنية الحديثة التي قاربت الناس ببعضهم البعض نتيجة ثورة الاتصالات، وأزالت الحدود والحواجز الافتراضية بشكل هائل وسريع، ولم يعد من الممكن اللجوء للوسائل القمعية القديمة، ولا إلى حملات النفي والإنكار التي كانت تطلقها وسائل الإعلام الرسمية بأساليب باتت مضحكة وهزلية بلغة اليوم، وهذا الذي ولد مصداقية وجدارة تلقائية لإعلام «بديل» آخر انتشرت فيه الأخبار مع الكذبة والإشاعة، واختلطت بشكل غريب، وكل ذلك أدى إلى حدوث موجات من القلق، ومن الغضب في حالات أخرى.

مع ازدياد الطاقات الاستيعابية لشبكات الهواتف المهولة وزيادة قدرات الإنترنت سيكون المتلقي على موعد مع شلالات إضافية من الغث والسمين، أعاننا الله عليها.

[email protected]